المغربفاس

قوافل “صحتك أولويتنا”… حين يتحول الألم إلى دعاية وصوت المريض إلى ورقة انتخابية

تحت الشعار البراق “صحتك أولويتنا”، وبابتسامة محسوبة أمام عدسات الهواتف، تتحول القوافل الطبية في فاس من فعل تضامني إلى مسرح انتخابي مبكر. حدث ذلك ويحدث، وآخره يوم الجمعة 12 دجنبر 2025 بالمركز الصحي صهريج كناوة بمقاطعة جنان الورد، حيث كان “الحضور الوازن” لبرلمانيين ومنتخبين محليين أثقل من ميزان ضغط الدم، وأعلى من صوت سماعة الطبيب. سؤال بسيط يفرض نفسه: هل نحن أمام علاج للمرضى أم ترويج للمرشحين؟

المشهد بات محفوظًا: لافتات، صور، خطابات جانبية، وابتسامات تُوزَّع كما تُوزَّع الوصفات الطبية. المواطن يأتي بحثًا عن فحص أو دواء، فيجد نفسه محاطًا بخطاب انتخابي مُموَّه بلباس الإحسان. التمويه السياسي هنا لا يخطئه أحد: خدمة صحية تُقدَّم كـ“منة”، وكأن التطبيب فضل حزبي، لا حق دستوري، وكأن المستشفى العام عاجز لولا أن تتفضل الأحزاب بـ“قافلتها”.

وهنا بيت القصيد: لماذا لا تُؤطَّر هذه القوافل داخل المؤسسات الصحية العمومية وبحياد كامل؟ لماذا يُترك المجال للأحزاب كي تحوّل المرض إلى منصة دعاية، والانتظار في الصف إلى فرصة صورة؟ أليست المستشفيات قادرة—لو توفرت الإرادة—على تنظيم أيام طبية بلا ألوان سياسية، بلا شعارات، وبلا استثمار انتخابي في أنين الناس؟

العبث يبلغ ذروته حين نرى الأحزاب نفسها تتقمص دور “المنقذ الصحي”، وهي التي كانت شريكًا في كوارث قطاع الصحة: إضعاف المستشفى العمومي، فتح الأبواب على مصراعيها للمصحات الخاصة كي “تكزّر” المواطنين وتسلخهم في الفواتير، وترك سوق الدواء نهبًا لارتفاعات صاروخية لا يضبطها ضابط. أي أخلاق سياسية هذه؟ يدمرون المنظومة، ثم يأتون بقافلة لالتقاط صورة مع مريض.

أما شركات الأدوية، فقصتها أوضح من الشمس: أسعار ترتفع، رقابة تترنح، ومواطن يدفع الثمن. من احتضن هذه الشركات؟ من سهّل لها الطريق؟ ومن صمت حين صار الدواء رفاهية؟ ثم يعود الخطاب ذاته ليقول: “نحن نهتم بصحتكم”. أي صحة؟ وأي اهتمام؟

ويبقى سؤال السلطات معلقًا في الهواء: أين هي من منع هذا الاستغلال السافر؟ لماذا يُسمح بتحويل المراكز الصحية إلى فضاءات دعاية؟ أم أن صوت السلطة لا يرتفع إلا ضد أحزاب “مغضوب عليها”، بينما يُغمض العين حين يتعلق الأمر بأحزاب الحكومة؟ الحياد الإداري ليس انتقائيًا، أو لا يكون.

القوافل الطبية، في أصلها، فعل نبيل حين تُدار بمهنية وحياد. لكنها تتحول إلى متاجرة بصحة المواطن حين تُحمَّل بما لا تحتمل من شعارات وصور ومصالح. الصحة ليست كيس دقيق يُوزَّع في موسم انتخابي، ولا صورة تُلتقط قرب سرير مريض. الصحة سياسة عمومية، تمويل، أطر، دواء مُراقَب، ومستشفى يحترم الإنسان.

إلى أن يُفصل العلاج عن الدعاية، والحق عن “المنة”، ستظل هذه القوافل شاهدًا على مفارقة مؤلمة: مواطن يُعالج مؤقتًا ليُستَغل طويلًا. أما “صحتك أولويتنا”، فستبقى—ما دامت تُرفع فوق الألم—مجرد شعار جميل… يخفي وراءه حسابات قبيحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى