المغرب

قضية الدركي الموقوف… نموذج يكشف الفعالية الأمنية من داخل المؤسسة

شكّل قرار قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء إيداع دركي برتبة أجودان السجن المحلي عكاشة، للاشتباه في تورطه ضمن شبكة للابتزاز الرقمي والتشهير، محطة بارزة تُبرز إحدى أهم نقاط قوة الدولة المغربية: قدرة مؤسساتها الأمنية على ممارسة الرقابة الذاتية الصارمة، وتطهير صفوفها من كل انحراف فردي يمكن أن يهدد الثقة أو يربك استقرار عمل الأجهزة. فالأبحاث التي باشرتها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية تحت إشراف النيابة العامة تعاملت مع الملف بحياد كامل، واعتبرت المشتبه فيه مواطناً خاضعاً للقانون قبل أن يكون منتسباً لجهاز نظامي، وهو ما يعكس نضجاً مؤسساتياً وقواعد مهنية راسخة.

ومع تقدّم التحقيقات، اتضح أن الدركي الموقوف لم يكن يتحرك بشكل منفرد، بل كان على ارتباط مباشر بشخص مقيم خارج المغرب يُشتبه في كونه العقل المدبر لشبكة رقمية منظمة تنتج محتويات تشهيرية موجهة وتستغل معطيات مهنية حساسة لشن حملات تضليل وابتزاز تستهدف مسؤولين أمنيين وقضائيين وسياسيين. وقد مكّنت الأدلة التقنية المحجوزة من تتبع مسارات تبادل المعلومات، ورصد كيفية إدماج معطيات داخلية في عمليات تشويه ممنهجة تُدار عن بُعد، ما يكشف نوعية التحديات الجديدة التي تواجه الدولة في مجال الجريمة الإلكترونية العابرة للحدود.

ورغم حساسية موقع الموقوف داخل مؤسسة الدرك الملكي، فإن التعامل معه لم يخرج عن منطق سيادة القانون. فقد بادرت القيادة العليا إلى اتخاذ إجراءات تأديبية في حقه بالتوازي مع المسار القضائي، ما يؤكد أن المؤسسة لا تنتظر الأحكام النهائية لفرض الانضباط، وأنها تعتبر حماية سمعتها وتماسكها جزءاً من الأمن الوطني نفسه. هذا النهج يعكس فلسفة واضحة: الانتماء للبدلة لا يمنح حصانة، والمسؤولية تدعو إلى المحاسبة قبل أية اعتبارات أخرى.

وتبرز هذه القضية أن فعالية الأجهزة الأمنية المغربية لا تظهر فقط في قدرتها على تفكيك شبكات الجريمة الخارجية أو مواجهة التهديدات التقليدية، بل أيضاً في استعدادها للتدخل السريع والحازم عند رصد اختلالات داخلية، مهما كانت رتبة أو موقع من ارتكبها. فالكشف عن الانحرافات الداخلية، ومعالجتها ضمن مسار قانوني ومهني منضبط، يشكّل جانباً أساسياً من قوة المؤسسة، ويُعيد التأكيد على أن الدولة تمتلك الآليات الضرورية لصيانة أجهزتها وحماية مؤسساتها من الداخل قبل الخارج.

وفي ظل استمرار التحقيق وترجيح سقوط أسماء أخرى مرتبطة بامتدادات الشبكة الرقمية المعنية، يبدو أن الرسالة الأهم قد وصلت بوضوح: المنظومة الأمنية المغربية ليست فقط قوة تنفيذية تواجه الجريمة، بل هي أيضاً منظومة رقابة ذاتية قادرة على تصحيح أخطائها بنفس الصرامة التي تواجه بها خصومها، مما يعزّز ثقة المواطنين ويؤكد نضج الدولة في زمن تتعقّد فيه أساليب الاستهداف الرقمي وتتسع فيه شبكات التشهير العابر للحدود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى