وأنا أتصفح التقرير الأخير الصادر عن المفتشية العامة للتربية والتكوين بخصوص تتبع ومواكبة الدخول المدرسي لموسم 2017/2018، وقفت عند عبارة “إكراهات مرتبطة بالمجال الجغرافي”، والتي جاءت ضمن الإطار العام المتعلق بالإكراهات والصعوبات التي عرفتها عملية تدبير وإنجاز عملية التتبع، فتبادر إلى ذهني سؤال حول ما إذا كان يعتبر المجال الجغرافي إكراها أمام لجنة ستزور المكان وتستقر فيه لبضع دقائق في يوم واحد من بين أيام موسم دراسي كامل… فتساءلت مرة أخرى حول حال أولئك الذين يعملون بهذه الأمكنة طيلة مواسم دراسية متعددة ولسنوات عجاف تتخللها جميع الفصول، في حين أن الكل يعرف حالة الطقس ووضعية المناخ في بداية الموسم الدراسي الذي تقلدت خلاله اللجان مهمة التتبع.
التقرير أكد أن تدبير وإنجاز عملية تتبع ومواكبة الدخول المدرسي بالمؤسسات التعليمية، عرف مجموعة من الاكراهات والصعوبات ذكر من بينها ما هو مرتبط بالمجال الجغرافي، حيث اعتبر أن بعض المديريات الإقليمية الأكثر شساعة يغلب فيها الطابع القروي وتشتت المؤسسات التعليمية وفرعياتها أو ملحقاتها، مما لم يسمح –حسب التقرير- زيارة أكثر من مؤسسة واحدة في اليوم الواحد، مؤكدا أن الأمر تطلب توفير عدة فرق ميدانية وعدة وسائل للتنقل لتغطية كل المؤسسات التعليمية بالإقليم.
هو تقرير أماط اللثام عن حقيقتين أولاهما معاناة أساتذة وأطر العالم القروي الذين يؤدون مهامهم في أعالي الجبال والفيافي القفار في ظروف أقل ما يقال عنها قاسية وجد خطيرة في بعض الأحيان قد تودي بحياة العاملين، فما وقع يوم 5 مارس 2018 بأزيلال هو أمر جلل أصيبت به الأسرة التعليمية جراء فقدانها لأحد أطرها المدرسين وهو في ريعان شبابه وحداثة توظيفه بعدما جرفته السيول فألقته ميتا على ضفاف واد بمسلك أيت قبلي بالحزام الجبلي بأزيلال… فلم نسمع للقائمين على قطاع التعليم لا همسا ولا ركزا، فالشهيد ليس مبعوثهم الرسمي في إطار لجنة تفتيش أو مراقبة أو تتبع لتجيش له كل الفرق الميدانية ووسائل التنقل وشبكة هاتفية لتخبره بالتوقعات لأخذ الاحتياطات… وإنما هو مدرس، ذلك الموظف البسيط الذي كان قنديلا في زمن الوطنية الحقة فحولته الأيادي الخفية وبتواطؤ مع الآلة الاعلامية الخبيثة ليصبح زنبيلا في زمن الخذلان السياسي، لتصيره أيادي الغدر بتواطؤ مع جشع السلطوية ليصبح منديلا تجفف به أيادي الفاشلين في زمن تحول فيه التعليم إلى سلعة بأيدي أصحاب “الشكارة” من الجشعين والمغتربين الجاثمين على مستقبل الأجيال.
الحقيقة الثانية أن التقرير فضح سياسة الكيل بمكيالين تجاه الشغيلة بقطاع التعليم، وكشف المستور في التعامل مع الموارد البشرية العاملين في الميدان رغم أن هؤلاء هم ركيزة الإصلاح …هم الآذان الصاغية لأنين وآهات ومعاناة أطفال البوادي…. هم الأعين الشاهدة على براعم صاعدة وأجيال قادمة تقاوم غضب الطبيعة وتعاند مرارة الواقع لعلها تكسب بذلك في المستقبل مقعدا بين أبناء الوطن كافة…، التقرير كشف سياسة “فرق تسد”، وفضح منطق تصنيف بعض الموظفين في الدرجة الثانية، بحيث أن هؤلاء في نظر القائمين على القطاع ليسوا في حاجة إلى سيارات الدولة، ولا حق لهم في التعويض عن التنقل، ولا تقبل شكاياتهم إذا تعثر أداء المهمة، فقساوة الطبيعة ووعورة مسالكها وظروف العمل بها لا تتضمنها مخططات التدبير ولا تغطيها ميزانيات التسيير… إنه منطق “دبر مخك” من أجل استجداء كرم الساكنة القروية رغم بؤسهم وبساطة عيشهم لعل أياديهم قد تجود بعود يذهب ألم البرد القارس أو بدابة قد تخفف عناء السفر.
تقرير آخر أصدره المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي في فبراير الجاري حول “الارتقاء بمهن التربية والتكوين والبحث والتدبير” تحت رقم 3/2018، وهو التقرير الذي اعترف بوجود إشكال حقيقي يتعلق بمزاولة المهن التربوية والتي تتسم –بتعبير التقرير- بالصعوبة والمشقة في حالات متعددة، ولاسيما بالنسبة للعاملين بالتعليم المدرسي في المناطق القروية والنائية والمعزولة والهامشية… فهو اعتراف ضمني من مؤسسة تابعة للدولة لتهمس في أذن القائمين على الشأن التربوي –خصوصا المعنيين منهم بتدبير الموارد البشرية- لهذا القطاع، على أن هذا الأمر يصنف ضمن الإشكالات التي تعيق عملية الارتقاء بمهن التربية والتكوين، وأنه لم يعد من الأمور التي يمكن التغاضي عنها أو استغفال كل الأصوات الحرة المنادية بإعادة الاعتبار لهذه الفئة وإحقاق حقوقها وتحسين ظروف مزاولة مهنتها….هي صرخة من المجلس المذكور ليجدد التأكيد على أن “الارتقاء بمهن التربية والتكوين يعتبر استثمارا فعليا في الرأسمال البشري لكونه عاملا أساس في إنجاح إصلاح المدرسة المغربية والرفع من قدرات المنظومة التربوية ككل”.