المغرب

عندما يصبح السجن حلا… وتسقط «الحكومة الاجتماعية» في اختبار الكرامة

عندما تصرّح “أم” في الإعلام، لا لتطالب بامتياز ولا بمنصب، بل لتطلب السجن، عندها يجب أن يتوقف كل شيء. لا لأن الطلب غريب، بل لأن الواقع هو الغريب. أن تقول امرأة: ضعوني في السجن، فقط ضعوا أبنائي معي، ليس جنونا، بل تشخيصا قاسيا لوضع اجتماعي فقد كل توازنه. السجن، في هذه اللحظة، لم يعد عقابا، بل صار وعدا بالحد الأدنى من الحياة: سقف، عدس، لوبيا، وليل بلا خوف من الغد.

في علم النفس، حين يفضل الإنسان القيد على الحرية، فذلك يعني أن الحرية نفسها تحولت إلى عبء. وفي علم الاجتماع، حين يطلب المواطن السجن كراحة، فهذا إعلان غير مباشر عن فشل الحكومة في أداء أبسط وظائفها: حماية الكرامة الإنسانية. نحن هنا لا نتحدث عن انحراف فردي، بل عن انهيار المعنى.

تظهر الحكومة في التلفاز، أنيقة، مطمئنة، تتحدث عن “الحقوق”، “الحماية الاجتماعية”، و”العدالة المجالية”. كلمات كبيرة، مصقولة، تقال بطمأنينة من يعرف أن الكاميرا ستنطفئ. لكن، بمجرد أن تنطفئ، يعود المواطن إلى واقعه: حق في الخطاب، وحرمان في الحياة. الحكومة تعترف بالحقوق نظريا، لكنها تهضمها عمليا. الحقوق تصرح، لا تمارس.

عندما تقول الأم للمسؤولين: هل تريدون أن ننتحر حتى ترتاحوا؟ فهي لا تهدد، بل تصرخ. هذه ليست لغة ابتزاز، بل لغة اليائس الذي وصل إلى الحائط. في علم النفس تسمى هذه اللحظة “الاستسلام الدفاعي”: حين يكف الإنسان عن طلب الحلول، ويبدأ بطلب النجاة بأي ثمن، حتى لو كان الثمن السجن.

أي مفارقة هذه؟ أن يتحول السجن—رمز القمع—إلى مساحة أمان اجتماعي، بينما تتحول الحرية—رمز الكرامة—إلى ساحة تعذيب يومي. هذه ليست مفارقة لغوية، بل فضيحة سياسية وأخلاقية. لأن الحكومة، حين تعجز عن توفير الخبز والكرامة، تترك للمؤسسات العقابية أن تؤدي دورها الاجتماعي بدلها.

ما يحدث ليس قدرا، بل نتيجة خيارات. سياسات اختارت الأرقام بدل البشر، والموازنات بدل البطون، والشعارات بدل الواقع. حكومة تدعي الاجتماعية، لكنها لا ترى المواطن إلا حين ينهار أمام الكاميرا. عندها فقط، تخرج قاموسها العاطفي، ثم تعود سريعا إلى جدول أعمالها.

حين يطلب المواطن السجن كراحة، فهذا يعني أن العقد الاجتماعي تم تمزيقه. لم يعد المواطن يثق في الحكومة كحاضنة، بل يراها كفراغ. والفراغ، حين يطول، ينتج هذا السؤال المرعب: هل الموت أرحم؟ هل السجن أعدل؟.

في تلك اللحظة، لا نحتاج إلى لجان ولا إلى بلاغات. نحتاج إلى اعتراف بسيط: أن “الحكومة الاجتماعية” التي تقدم لنا في التلفاز لم تنزل بعد إلى الشارع. وأن العدس في السجن صار، عند البعض، أكثر واقعية من الوعود في نشرات الأخبار.

هذه ليست قصة أم واحدة. هذه مرآة مجتمع يدفع ببطء إلى حافة اليأس. وعندما يصل الإنسان إلى حد تفضيل القيد على الحرية، فاعلم أن المشكلة ليست فيه… بل في حكومة جعلت الحرية نفسها عبئا لا يحتمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى