عندما تخدم السلطة أصحاب المال: ملفات معلقة تكشف إرثاً ثقيلاً لوبيات تجارية عطّلت مشاريع تنموية

تشهد عدد من العمالات هذه الأيام حركية غير مسبوقة بعد قرار بعض العمال الجدد فتح أبحاث إدارية موسعة بشأن مشاريع مهيكلة ظلت معلقة لسنوات، رغم جاهزيتها القانونية والمالية، ودون أي مبرر موضوعي يفسر تأخر إطلاقها. هذه المشاريع، التي تتعلق بأسواق نموذجية وأسبوعية ومرافق اقتصادية محلية، كانت من المفترض أن تعزز البنية التجارية وتحسن ظروف اشتغال آلاف المهنيين الصغار، لكنها اصطدمت – كما تؤكد مصادر محلية – بنفوذ لوبيات اقتصادية اعتادت الاستفادة من الفوضى القائمة في القطاع.
فتح هذه الملفات اليوم ليس مجرد خطوة تقنية أو تغيير إداري عابر، بل هو مواجهة مباشرة مع إرث ثقيل راكمته شبكات مصالح استغلت تراخي بعض المسؤولين السابقين، الذين حرصوا على ترك الوضع على ما هو عليه، مُغلقين الباب أمام أي إصلاح كان من شأنه أن يُعيد تنظيم السوق ويحد من هيمنة الوسطاء. فكل مشروع من هذه المشاريع كان يعني عملياً تقليص هامش الربح غير المشروع الذي تجنيه أطراف تتحكم في مواقع البيع العشوائي، وتستغل هشاشة الباعة وتراخي الرقابة.
الأسواق النموذجية، التي كان يفترض أن تُعيد الاعتبار للتجارة المنظمة وتحفظ كرامة الباعة، تحولت إلى مشاريع “مجمّدة” على الرفوف، لأنها ببساطة تهدد مصالح من ظلوا يستفيدون من الفوضى. أما الأسواق الأسبوعية، رغم أهميتها الاجتماعية والاقتصادية، فقد أُبقي عليها دون أي تحديث، فقط لأن تطويرها قد يقطع الطريق على شبكات اعتادت التحكم في عملية استغلال “الجبايات غير الرسمية” وما يرافقها من نفوذ محلي.
إن القرار الذي اتخذه بعض العمال الجدد ليس مجرد مراجعة لملفات تقنية، بل هو إعادة ترتيب لأولويات السلطة الترابية في اتجاه ربط المسؤولية بالمحاسبة، وإعادة الاعتبار للدور الحقيقي للإدارة الترابية باعتبارها حامية للمصلحة العامة، وليس وسيطاً غير معلن لمصالح مراكز نفوذ اقتصادية. فتح تحقيقات إدارية بهذا الحجم يعكس إرادة لإعادة الأمور إلى نصابها، وفهم ديناميات التعطيل التي حوّلت بعض المجالس المنتخبة إلى رهينة لدى لوبيات تجارية تُفشل أي مشروع لا يخدم امتيازاتها.
غير أن هذه الخطوة تطرح أيضاً سؤالاً عميقاً: إلى أي مدى يمكن فعلاً تفكيك هذه الشبكات التي تشابكت مصالحها مع أطراف من داخل الإدارة؟ وهل يكفي تغيير المسؤولين لتغيير المنطق العام الذي حكم تدبير عدد من الملفات لسنوات؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تبدأ بإرساء مبدأ الشفافية، وجعل كل قرار عمومي قابلاً للمساءلة، وربط أي تعطيل متعمد بالعقوبة الإدارية والقانونية.
فتح هذه الملفات اليوم بمثابة اختبار حقيقي لمدى قدرة الإدارة الترابية على القطع مع ممارسات الماضي، وتثبيت قواعد جديدة يكون فيها القانون فوق الجميع. فالتنمية المحلية لا يمكن أن تتحقق في ظل منطق “خدمة الأقوى”، ولا يمكن لمشاريع مهيكلة أن ترى النور إذا ظلت رهينة حسابات ضيقة تضع مصالح فئة محدودة فوق احتياجات آلاف المواطنين.
إن إعادة الاعتبار للمرافق الاقتصادية المنظمة ليست مجرد مشروع عمراني، بل هي رهان تنموي واجتماعي يعيد هيكلة العلاقة بين المواطن والسوق، وبين السلطة ومراكز النفوذ. وإذا نجحت هذه التحقيقات في كشف الملابسات وتحريك المياه الراكدة، فستكون خطوة نحو إدارة تتعامل مع الملفات بجرأة، وتعيد التوازن بين السلطة ومصالح المال، لتنتصر المصلحة العامة أخيراً على منطق الامتيازات غير المشروعة.




