صفرو

نجيب أتريد يكتب : نعش وزيتون

لقد اعتاد الانزواء في خلوته والجلوس على مكتبه في كبرياء وجبروت بليغين. إنه الملك. فهو الذي يتعقب شخوصه ويقبض عليهم بقبضة من حديد، بحيث لا يتحرك أحد إلا بإذنه وبإرادته. فهو الذي يحركهم كما يحرك الدمى: يضغط عليهم ويعصرهم بقوة كما تعصر حبة الزيتون داخل الرحى، فيستخرج منهم القديم والجديد.

   لكن هذه المرة، سينقلب السحر على الساحر،ولم يعد الكاتب قادرا على تحريك خيوط اللعبة كما كان من قبل. كل شيء خرج عن طوعه وأصبح يخبط خبط عشواء دون سيطرة أو تحكم. الأمور معقدة، والتناقضات تخنق الأنفاس. إنه الشخصية الرئيسية الوحيدة في حكايته، ليست إلا جثة هامدة لا تتحرك ولا تتكلم، فهي لا تضر ولا تنفع في شيء.

   وغير بعيد عن المدشر الحزين، تجمع بعض الأطفال وهم يرقبون في ذهول جسد رجل يقارب الستين من عمره، يتدلى من على غصن زيتون أخضر بحبل متين يلف عنقه النحيف . كانت قدماه تكادان تلامسان التراب، بحيث لا تفصلهما عنه إلا سنتيمترات فقط. الرجل نحيف، وقد انضاف لون الدم المعتصر في وجهه إلى لونه الأسمر الأصلي، فأعطى شحوبا لا يسر الناظرين…

   وإن هي إلا لحظات حتى وصلت سيارة الدرك الملكي، فنزل الضباط لمعاينة الحادث وأخذ صور مختلفة  من وضعيات مختلفة. كانت كذلك  عدسات كاميرات الهواتف النقالة متجهة من كل ناحية صوب الجثة تلتقط الصور التي ستملأ صفحات عدد من مواقع التواصل الاجتماعي فيما بعد. فلما رأى أحدهم صورة على موقع فايسبوك، استنكر قائلا:

ـ حشومة على هاد الناس يشوهو بالراجل وهو ميت!

أجاب آخر:                            

ـ هذا راه عصر الأنترنيت مابقات حتى شي حاجة كاتستر..!

   كانت أفواه الأطفال مفتوحة وعيونهم متسعة وهم يحملقون  مذهولون في الجثة المعلقة في غصن الزيتون الأخضر كما تعلق الشاة في المجزرة. الأطفال حائرون مذعورون يطرحون ألف سؤال وسؤال: لماذا يقتل الإنسان نفسه؟ وكيف يستطيع ذلك؟ لماذا يخلق أول مرة ثم يموت فيما بعد؟ وهل هناك أي شيء أغلى من الروح يمكن للإنسان أن يستغني من أجله؟…

   انطلقت الألسن في التحرك، داخل الأفواه بعضها لائمة وساخرة من الذين يقتلون أنفسهم، وبعضها لا ترى في ذلك عيبا طالما يكون هو الخلاص الوحيد مما هم فيه من عذاب وألم. قال أحدهم:

ـ إوا آش قضى دابا بهاد الفعلة؟ مشى لا دنيا لا آخرة!! واش ماعرفشاي بأن الله عز وجل حرم القتل على النفس إلا بالحق؟

   نطق آخر معاتبا:

 ـ إوى هانت قلتيها بفمك (قتل النفس إلا بالحق) واش أنت كاتعرف أشنو به وأشنو هو حجم المعاناة ديالو حتى تحكم عليه؟ ربما كان على حق وأنت لا تدري. واش كاتعرف أن أصعب حاجة فالدنيا هي أن الإنسان يقتل نفسو؟ ومادام جاتو هاد الجرأة وقدر ينفذ عملية القتل فنفسو وينهي حياتو بيدو، هذا كايعني أناه وصل لواحد الحالة من فقدان الأمل والتعب من الواقع لا مثيل لها وراه مابقالو فين يزيد..  !والمهم أناه آذى غير نفسو ماشي ناس آخرين.. !

   يبدو أن صاحبنا قد أزعجه الكلام فرد منفعلا:

 ـ كيف ما كانت الأسباب وكيف ما كانت المعاناة.. هادي راها جريمة ويستحق يتعاقب عليها.. بصح هاهو غادي لعند لي خلقو وهو عارف ما يدير به.. !

    تعددت الآراء وبدا المكان صاخبا ثم انفرد أحدهم بصديقه وهمس في أذنه:

 ـ إنه رجل تعليم محترم، فهو الذي يعلم الأجيال ويقويهم، لكن المسكين لم يجد من يقويه.. !أتعرف ماهي مشكلته؟

   أجاب الصديق:

 ـ ومن أين لي أن أعرف؟

   قال:

 ـ لقد أثقلت الديون كاهله، ولم يعد قادرا على تسديدها بالرغم من أن راتبه الشهري ممتاز. الأبناك نفسها لم تعد تمنحه أية قروض أخرى لأنه تعدى الحد، فبدأ يلتجئ إلى أماكن مشبوهة لا تحترم قواعد القروض، فبقي على حاله ذلك إلى أن تقزم راتبه ولم يعد يكفي حتى لمصروف الجيب! يقولون بأن نفقاته قد زادت عن حدها بسبب تعاطيه المخدرات وشربه للخمرة زيادة على “داخليته” التي لم تكن تساعده!

 ـ وماذا تقصد “بداخليته”؟

 ـ أقصد زوجته وأولاده. كانوا يبالغون في الإسراف، فاختل توازنه وصعب عليه إعادة ترتيب أموره، فاسودت الحياة في وجهه وقرر ما قرر. مسكين فعلا.. كان الله في عونه، لكن أظنه استراح من هموم هذه الدنيا. !

   مرت أيام والناس لا يتحدثون إلا عن الأستاذ المنتحر. تعددت الأقوال والإشاعات، وكانت أقواها هي تلك الرسالة التي كتبها بخط يده وتركها لزوجته وأولاده يطلب فيها منهم السماح ويشرح لهم كيفية تعبئة ملف المعاش والتغطية الصحية بعد مماته. لقد أجمع الكل على أن لتلك الرسالة تأثير بالغ على من يقرؤها. قالوا بأنها تسيل دموع الميت قبل الحي. لقد آثر حياة زوجته وأولاده على حياته. فلو بقي حيا، لبقي كاهله مثقلا بتلك الديون التي عجز عن تسديدها، ولربما انتهى به الأمر في آخر المطاف إلى السجن والطرد من الخدمة. وآنذاك يكون الجميع قد خسر، لكن لو فارق الحياة، ستسقط الديون ويتحرر الباقي. يموت هو وتحيى الأسرة. إنه موقف نبيل يمكن أن يشفع له خطيئته تلك!

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تحليل صحيح للواقعة
    المرحوم مات و بداخله سر لا يعلمه الا الله ، المرحوم كان خارق الذكاء ، و كان صديق الجميع كان مدمن على الحشيش و لا يشرب الخمر ، كثير الديون و له شيكات بدون رصيد عانى من القهر ، كان بعض اصدقائه يمدون له يد العون لكن هيهات ، اين ينفق امواله؟ الله اعلم ، كل ما فؤ التمر ان قراره لوضع حد لحياته كان مخططا له ، و ذلك لتحرير نفسه من القيود و لمساعدة عائلته على الاستمرار في الحياة لان آمن ان لا حياة لاسرته بوجوده على قبد الحياة
    رحم الله الفقيد و انا اليه و انا اليه راجعون .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا