سموم مُحرَّمة في أوروبا ومُصدَّرة إلى الجنوب: ازدواجية المعايير في السياسة البيئية للاتحاد الأوروبي

يكشف التحقيق الأخير حول تصدير المبيدات المحظورة أوروبياً عن واحدة من أكثر المفارقات فجاجة في الخطاب البيئي الدولي: اتحاد أوروبي يرفع شعار “التحول الأخضر” وحماية الإنسان والبيئة داخل حدوده، بينما يسمح في الوقت نفسه بإغراق دول الجنوب بمواد كيماوية ثبت علمياً خطرها على الصحة العامة والتوازنات البيئية. إنها سياسة بوجهين، أخضر في الشمال، وسامّ في الجنوب.
وفق معطيات التحقيق، فإن الجزء الأكبر من هذه الشحنات وُجّه إلى دول ذات دخل منخفض ومتوسط، حيث تكون أنظمة المراقبة ضعيفة، والتشريعات أقل صرامة، ما يجعل الإنسان والبيئة في هذه البلدان الحلقة الأضعف في سلسلة المصالح الاقتصادية العابرة للحدود. فحين تُمنع مادة كيماوية داخل الاتحاد الأوروبي بسبب مخاطرها المؤكدة أو المحتملة، لا يُطرح سؤال أخلاقي حول أحقية تصديرها إلى مجتمعات أخرى، بل يُعاد تصنيفها ببساطة كمادة “غير صالحة للاستهلاك المحلي” لكنها “صالحة للتصدير”.
الأرقام وحدها كاشفة لحجم التناقض. فقد وافقت الدول الأوروبية خلال السنة الماضية على تصدير كميات من المبيدات المحظورة تفوق بنحو 50 في المائة ما كان عليه الوضع سنة 2018. ويُعزى هذا الارتفاع إلى حظر عشرات المواد الكيماوية منذ ذلك التاريخ، ما جعلها تُدرج تلقائياً ضمن قائمة المبيدات غير المسموح باستعمالها داخل أوروبا، دون أن يمنع ذلك استمرار إنتاجها وتسويقها خارج القارة.
الأخطر في هذا المسار هو تورط شركات كبرى متخصصة في الصناعات الكيماوية الزراعية، من بينها مجموعات أوروبية معروفة، في هذه التجارة المربحة. فهذه الشركات، خصوصاً في ألمانيا وسويسرا، ما تزال تتصدر قائمة المصنعين والمصدرين عالمياً، مع احتلال ألمانيا موقع الصدارة أوروبياً. وهو ما يؤكد أن الاعتبارات الاقتصادية ولوبي الصناعات الكيماوية الزراعية ما تزال أقوى من أي التزام أخلاقي أو بيئي حين يتعلق الأمر بدول الجنوب.
وفي هذا السياق، تم خلال العام الماضي تصدير نحو تسعة آلاف طن من المبيدات المحظورة إلى القارة الإفريقية، حيث كان المغرب وجنوب إفريقيا من أبرز الدول المستقبِلة. وهي معطيات تطرح أسئلة محرجة حول موقع هذه البلدان في منظومة التجارة الدولية، وحول مدى قدرتها على حماية صحة مواطنيها وبيئاتها في ظل اختلال موازين القوة، وضعف آليات الرقابة، وضغوط السوق العالمية.
وقد نقل التحقيق إدانة صريحة لمقرر أممي معني بالمواد السامة وحقوق الإنسان، وصف فيها هذه الممارسات بـ“ازدواجية المعايير”، مؤكداً أن صحة وحياة سكان الدول المستورِدة لا تُعامل بالقيمة نفسها التي تُمنح لمواطني الدول المنتِجة. كما حذّر من خطورة عدد من المواد المصدّرة، بما في ذلك مركبات يُشتبه في تسببها بالسرطان، وأخرى تؤثر على الخصوبة والتكاثر، فضلاً عن مبيدات قاتلة للنحل ومهددة للتوازنات البيئية.
في المقابل، تحاول المفوضية الأوروبية تقديم نفسها كطرف واعٍ بخطورة الوضع، معلنة إطلاق تقييم للأثر منذ سنة 2023 بهدف منع إنتاج وتصدير أخطر المواد الكيماوية المحظورة. غير أن هذه الوعود، كما يكشف التحقيق، لم تجد بعد طريقها إلى التطبيق الفعلي، في ظل ضغوط قوية يمارسها لوبي الصناعات الكيماوية الزراعية، ما يجعل “التحول الأخضر” الأوروبي أقرب إلى خطاب موجه للاستهلاك الداخلي منه إلى التزام كوني بحق الإنسان في بيئة سليمة.
إن ما يفضحه هذا التحقيق ليس فقط خللاً تشريعياً أو تناقضاً سياسياً، بل منظومة كاملة تُعيد إنتاج منطق استعماري جديد: حماية مواطن الشمال بأي ثمن، ولو كان ذلك على حساب صحة الإنسان والبيئة في الجنوب. وهو واقع يفرض على الدول المستورِدة، ومنها المغرب، إعادة طرح أسئلة السيادة الصحية والبيئية، وعدم الاكتفاء بدور المتلقي لمنتجات لفظها الشمال بعدما تأكد خطرها، لأن السموم، مهما تغيّرت عناوين تصديرها، لا تعترف بالحدود.




