
بقلم: يوسف المسكين
في كل عام، تطل علينا الولايات المتحدة بعطلة “جونتينث” كأنها تقدم للعالم درسًا في الإنسانية، وتُذكّر الجميع بأنها “أرض الأحرار”. لكن الحقيقة أن هذا اليوم، الذي يُفترض أن يخلّد لحظة تحرير العبيد، لم يعد سوى قناع مزركش يغطي قبح واقع لم يتغير.
جونتينث هو تخليد لتحرير آخر دفعة من العبيد في تكساس عام 1865، أي بعد أكثر من عامين على إعلان تحرير العبيد رسميًا. ولكن ماذا تعني الحرية حين لا يُرافقها الاعتراف؟ حين تتحول إلى طقس احتفالي يليق بالإعلانات أكثر مما يليق بالعدالة؟
من السهل على النخبة السياسية الأمريكية أن تمنح عطلة فدرالية، ولكن من الصعب، بل المستحيل حتى الآن، أن تعترف بالجرائم المؤسسة للدولة: تجارة العبيد، القتل الممنهج، تجريد الإنسان الأسود من إنسانيته، واستمرار ذلك بوسائل أكثر “تحضّرًا” اليوم.
أمريكا تكره أن تنظر في مرآتها
كيف يمكن لدولة أن تحتفل بنهاية العبودية، في حين أن جورج فلويد اختُنق أمام الكاميرا من طرف شرطي أبيض؟ كيف يمكنها التباهي بالعدالة، بينما بريونا تايلور قُتلت وهي نائمة في سريرها، دون أن يُحاسب أحد؟
مئات، بل آلاف القصص، من إريك غارنر إلى تيرنس كراتشر، تؤكد أن السود في أمريكا ما زالوا يُقتلون بسبب لون بشرتهم. ما زالت الشرطة تعتبرهم تهديدًا حتى قبل أن ينطقوا بكلمة.
وفي كل مرة، يتكرر السيناريو ذاته: مظاهرات، غضب، وعود… ثم صمت. وكأن حياة السود مجرد لحظة غضب عابرة في نشرة الأخبار.
العبودية لم تنته.. لقد أعادت الدولة تسويقها
قد لا توجد سلاسل حديدية اليوم، لكن هناك نظام قضائي يُجرّم الفقر، ويُغذي السجون بالأجساد السوداء. هل تعلم أن السود يمثلون 13% فقط من سكان الولايات المتحدة، لكنهم يشكلون حوالي 40% من نزلاء السجون الفدرالية؟ هل هذا محض صدفة؟ أم أن النظام وُضع ليُعيد استعبادهم بشكل قانوني؟
نظام التعليم، التوظيف، الرعاية الصحية، الإقراض العقاري… كلها ميادين لا يزال فيها الأسود يُعامل كمواطن درجة ثانية، أو لا شيء.
جونتينث.. احتفال بلا مضمون
ما فائدة أن تضع صورة عبيد محررين على طابع بريدي، بينما أحفادهم اليوم ما زالوا يُطاردون، يُهملون، ويُسحقون في كل زاوية من زوايا الدولة؟ هل نحترم تضحيات أجدادهم بالعطلات؟ أم نُعيد لهم كرامتهم بالعدالة، بالاعتذار، وبإصلاح عميق؟
حتى اليوم، لم تعتذر الدولة الأمريكية رسميًا عن ماضيها الاستعبادي، ولم تُناقش بشكل جاد مشروع التعويضات، رغم أن تلك العبودية بَنَت اقتصادها وصنعت مجدها.
الحرية الحقيقية تبدأ بالاعتراف
إذا كانت أمريكا صادقة في نواياها، فلتُحاسب قاتلي السود، فلتُغيّر قوانينها العنصرية، فلتُعترف أن العنصرية لم تكن مجرد انحراف، بل حجر أساس. فلتفتح أرشيفها، وتكشف حقيقة كيف اغتيل مالكوم إكس، وكيف جُرّمت حركة “الفهود السود”، وكيف سُحق كل من طالب بالكرامة دون إذن من الدولة.
أما الاحتفال بـ”جونتينث” دون أن يكون مصحوبًا بإصلاح شامل، فهو ليس سوى وصمة جديدة في جبين دولة تتقن التسويق للحرية، لكنها تعجز عن ممارستها.