المغرب

تنبيه من الشيخ المقرئ عبداللطيف بوعلام الصفريوي يعقُبه مقال عن عدم احترام القوانين الوضعية التي بها تكتمل المصالح البشرية

ذلك أن مقالاتي المطولة نسبيا أستهدف فيها القراء النَّهِمِين الخُلَّص لا الكسالى الذين يقتلون الوقت في موبايلاتهم استعراضا للمشاكل وتتبع عورات إخوانهم المسلمين شامتين أو مستغربين في أن نجاهم الله مما ابتلى به الآخرين، ولقد نبهت مرارا وتَكرارا على هذه الضميمة من أنه _ مع كامل الأسف وشديد الحسرة _ رغم أننا من أمة اقرأ اعتدادا بأول خطاب شفهي قرآني يتلقاه رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم بغار حراء ارتقاء للسُّلَّم الموصل إلى السعادة في الدارين لبلوغ أعلى القمم.. وبالرغم من هذا التشريف من لدن الخبير اللطيف، فهناك نزر قليل جدا جدا هو الذي يقرأ، وأهيب بمن ليس لديه الوقت البتة ألا يدخل ويلِج مقالاتي التي أنفق في تحبيكها وقتا ليس باليسير، وعودة إلى موضوعنا الشائك.
هذا المقال المطول كتبته خِصِّيصا لأولئك المتطاولين على القوانين الوضعية المنظمة للحياة اليومية بعدما لاحظت أن كثيرا من الناس لا يحترمون حتى ممر الراجلين والإشارات الضوئية ناهيكم عن المسائل الأخرى ذات الأولوية والأهمية؛ ذلك أنه ما وُضِع قانون السير في حقيقته إلا حفظا لسلامة السائقين، وسلامة غيرهم، ولقد كنت قبل أيام معدودة في عداد المفقودين ضحية لأحدالمتهورين الذي لولا لُطف الحي القيوم لكاد يُرديني قتيلا على ممر الراجلين والذي لما صِحْتُ به ولى مذعورا من الهاربين…
مما لا شك فيه أن ديننا الحنيف الإسلامي جاء لحفظ الكليات الخمسة للشريعة؛ وهي التي بواسطتها تتحقق المصالح الكبرى التي تدور حولها كل التكاليف الشرعية؛ حيث عرَّفها العلماء بأنها الضروريات التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا؛ ذلك أنه إذا تم تجاوزها وفُقِدَت لم تَجرِ مصالحُ الدنيا على استقامة أبدا، وستعم الفوضى لا محالة، ويختل التوازن كما نشاهده في بعض القطاعات غير المنضبطة بالتعليمات، والتي في نظرها العمل هو: ” دُورْ وَعْكَلْ هْنَا وَلْهِيهْ وَالسَّرْبِيسْ ( كلمة مأخوذة من الفرنسية معناها الخِدْمة: Service) غِرْ حِيلَه “، وهذه الكليات بعد الاستقراء وافتحاص كلام الله وقول رسوله تراها تتمحور حَول حفظ: (الدين، والنفس،والعقل، والنسل، والمال)، فهي تعتبر المقياس الذي يسهم بشكل جلي في استقرار وسعادة المجتمع، وبحفظنا لها سنكون قد حققنا بالفِعل المبتغى الأسمى لشريعتنا السمحة مهتدين بالآية العظيمة الجامعة لمكارم الأخلاق.
هذه الآية التي أحببت التطرق إليها ستكون تذكرة للصالحين ولجاما لعُدماء الضمائر عساهم يفيئون إلى الصواب في نفع البلاد والعباد، وهي موجودة بسورة الأعراف لدى قوله تعالى بها: * خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * (198) أو ( 199) بحسب العد المختلف فيه بين أهل الثبت وضباط المصاحف.
ذلك أنه لما نزلت هذه الآية الشاملة على رسولنا ﷺ قال: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قال: إِنَّ اللهَ أَمَرَكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ “، فتلاحظون أن هذه الآية جمعت مكارم ومحاسن الصفات الحميدة على الإطلاق، فبدأت بالأخذ بالعفو، أي: تعامل يا محمد مع الناس بما سمحت به أنفسهم، وما سهُل عليهم من التكاليف متجاوزا عن تقصيرهم غاضا الطرف عن نقصهم شريطة ألا ينتهكوا حرمات الله.
فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: * مَا انْتَقَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ الله عز وجل * الإمام مسلم (2327).
ومعنى قوله تعالى: ” وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ” أي: وأمر بالمعروف، والمعروف هو كل خِصلة جميلة حث الله ورسوله ﷺ على الاتصاف بها، وكل عمل أو قول تطمئن إليه النفوس،وتستحسنه العقول السوية، وكل ما جاء به الرسول ﷺ فهو من المعروف.
فالذين يجهزون بكل جرأة وصَفَاقَةٍ على القوانين الوضعية، ولا يتقيدون بها بحجة أنها وضعية أي من وضع البشر لا خالقهم هم عن الجادة والصواب لناكبون لأن الشريعة جاءت لتنظيم الحياة، وأعجبني أحد المفتين المصريين حسنين مخلوف رحمه الله إذ حكم في فتواه * على منتهك قوانين السير لو قُدِّرَ له الموت، فهو في عداد المنتحرين * لأنه خرق قانونا من الكليات الخمسة الذي هو حفظ النفس.
أما في ما يتعلق بالمال العام، فقد استسْهله الكثير من العاملين عليه في كشطه والسطو عليه معتبرينه كَلَأً مباحا ومَرْتَعا للرعي لا يرقى إلى الحرام.
والحق أن الحصول على مال لم تتعب وتشتغل فيه بالوسائل المشروعة مؤديا زكاته عند بلوغ النصاب هو مال حرام لأنه يؤدي في منتهاه لمنع الرزق، وعدم إجابة الدعاء وإغلاق باب السماء، فالمال فتنة كبرى كما جاء بالحديث الشريف من أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ». ووردت آيات كثيرة تحث على عدم أكل المال الحرام، قال تعالى بسورة البقرة ناصحا وناهيا ومحذرا: * وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) *، وقال أيضا بسورة النساء مهددا وجازما: * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) . وبالرغم من هذا الوعيد، فإن كثيرا من الناس يتساهلون في أكل المال الحرام، كما جاء في الحديث الشريف الذي قال فيه المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ أَمِنَ الْحَلاَلِ أَمْ مِنَ الْحَرَامَ». قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه مبينا قمة الاحتراز والتورع: ” كُنَّا نَدَعُ (أي نترك) تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلاَلِ مَخَافَةَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ “. بكثرة خوفهم من الله واتقائهم لأدق الشبهات. أما الآن فالمرء ( الكلام بطبْعِه منسكب على الجنسين معا باعتبار أن النساء شقائق الرجال في الأحكام باستثناء ما تعلق بخصوصيات أحد منهما) يعرف أن ما يأكله حرام مائة في المائة والذين يحومون حوله أهلَه وأفلاذ كبده وأقاربه ومعارفه وأصحابه يعلمون حقيقته، فتراهم صامتين ساكتين لأنهم مستفيدون مما يتقاسمه معهم من ولائم وهدايا، ناهيكم عما يغدقه من مال على الفقراء وهو يعلم بأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا… والذي يأكل المال الحرام يُعَرّض نفسه للعقوبة في الدنيا ويوم القيامة.قال النبي صلى الله عليه وسلم: هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ * ( أي خيانة للأمانة الموكلة إليهم باعتبار أنه يتقاضى أجرا على عمله)، وقوله أيضا: * مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فيَقولُ: هذا لَكُمْ، وَهذا أُهْدِيَ لِي، أَفَلاَ قَعَدَ في بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ، حتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟ *. هذا الحديث منسكب على الهدية، فما بالكم بالذي يسطو على المال دون تعب ولا وصب كأنه قد ورثه أو كسبه من كد يده..
فالعامل الجابي على الأقل قد جلب مصلحة وفائدة خاصة للشأن العام، ومع ذلك اعتُبِرَ عمله مشوبا بالحرام، فكيف بمن يعمل في الشأن العام ويبتغي فيه المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة.
قال تعالى بسورة آل عمران: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) }.
نكتفي بهذا القدر، وإلى قبس استرواحي آخر إِنْ نسأ الله في العمر، وبه وجب الإعلام والسلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا