في علاقة بمدن مغربية عتيقة وكتابة تاريخية منفتحة على ما هو محلي زمناً ومجالاً، ووعياً بأهمية تراث وتاريخ هذه المدن في أوراش انمائية ترابية مندمجة محلية، جاء مؤلَّف”تازة..الممر والمستَقر بين أطماعِ واحتلالِ المستعمِر” عن دار المعارف الجديدة بالرباط للأستاذ عبد السلام انويكًة. عمل بحوالي مائتي صفحة من قطع متوسط بصورة تاريخية في واجهته عن الأرشيف الفرنسي تخص تازة الأثرية، حيث مرتفع وشرفة وصخرة وموضع تطل من خلاله المدينة على ممر شهير بإسمها يصل شرق البلاد بغربها ووجدة بفاس.
كتاب يهم فترة دقيقة من تاريخ المغرب حيث نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بفهم تاريخي، جاء ببليوغرافيا متنوعة تبسط عبر محاور ثلاثة لجوانب فزيائية وانسانية تخص المنطقة ولوقائع وتطورات طبعت البلاد وممر تازة تحديداً خلال هذه الفترة. مع تركيز على وقع هذا الأخير في خريطة انشغالات أطماع استعمارية فرنسية مسبقة فيه انطلاقاً من الجزائر، كذا بعض سبل التعرف على المجال وإعداده لتحقيق توغل لاحق في المغرب، واستكمال ما كان لفرنسا من مشروع وتطلعات وحلم بشمال افريقي تابع.
حول سياق الاصدار من خلال فقرة واجهة الكتاب الخلفية أورد المؤلف:”ايماناً بأنه كلما صدر كتاب حول تاريخ تازة، كلما زاد الأمل بغد معرفي تاريخي مشرق يخص المدينة وجوارها. ووعياً بكون ما هو بحث وتأليف وتوثيق يشكل بحق حلقة وصل بين الأجيال وعمل جمع وتنقيب وإضافةٍ وتنويرٍ..، يأتي هذا الكتاب الذي يتوجه لِما هو معاصر من زمن المغرب. تحديداً منه فترة نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، عندما تقوت الأطماع الاستعمارية الأوربية الفرنسية تحديداً في البلاد انطلاقاً من الجزائر. في إطار مخطط مسبقٍ حضي فيه المجال المغربي عموماً بعناية بالغة الأهمية، خاصة مسالكه الحيوية الفاصلة كما بالنسبة لممر تازة. وبقدر ما استهدف الكتاب إبراز بعض أوجه مكانة تازة كممر ومستقر، في خريطة تطورات وأحداث مغرب هذه الفترة الدقيقة من تاريخه. بقدر ما جاء تفاعلا مع واقعٍ يقتضي توسيع وعاء خزانة تاريخية بطابع محلي. ونعتقد أن البحث في تاريخ المغرب وتقدم الكتابة فيه ليس أمراً رهيناً بما تراكم حول ما هو عام، إنما أيضاً بما هو تأمل وتساؤل يخص القرب فيه، لتلمس قيمته المضافة وتحديد ما هو بحاجة لالتفاتٍ في أفق تاريخ شامل للبلاد ومتكامل”.
والكتاب هو بتقديم متميز لأحد قيدومي كلية الآداب والعلوم الانسانية ظهر المهراز بفاس الدكتور خالد الصقلي عن شعبة التاريخ، تم فيه استحضار جملة اشارات هامة تخص واقع البحث والكتابة والنشر حول مدن المغرب وبواديه، ولِما طبع مؤلف “تازة الممر والمستقر..” من قيمة مضافة لِما جاء فيه من رصد يهم بعض ما كانت عليه المنطقة من أدوار في تاريخ البلاد وحضارتها منذ العصر الوسيط، وما كان لممر تازة من وقع في تاريخ المغرب المعاصر خاصة العقود الأولى لفترة الحماية. مذكراً بما جاء عند الدكتور عبد الهادي التازي رحمه الله، في مناسبات عدة كلما تعلق الأمر بتازة، قائلا:” تلك هي تازة وأن على أبنائها اليوم أن يقوموا بكتابة تاريخها في شتى الميادين، عليهم وحدهم تقع تبعات التعريف بهذه الماسة التي نسميها تازة”.
تقديم جاء كالتالي:” لم يحظ تاريخ المدن المغربية على عهد الحماية الفرنسية 1912- 1956م عموماً، باهتمام كافٍ في دراسات الباحثين المهتمين بالشأن التاريخي. وهذا راجع لترددٍ وتخوفٍ، من خوض غمار البحث في قضايا أساسُها مجال مُحَدد، وتقيد تاريخي بزمن معين. وهو تخوف طبيعي يرتبط بسؤال أساسي، مفاده مدى توفر أو ندرة المادة العلمية لإنجاز دراسة بمعايير علمية. ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي أبى صاحبه، إلا أن يرى النور ويستفيد منه العامة والخاصة. كتاب يروم التعريف بمنطقة تازة وتاريخها الضارب في الحضارة المغربية، خاصة وأن ممرها حظي باهتمام رجال الاستعمار، الذين تناولوا جوانب من حياتها الاجتماعية وتطرقوا لها عرَضاً في مذكراتهم ومؤلفاتهم. كما أن موقع المدينة الجغرافي وطبوغرافيتها، مكنها من لعب أدوارٍ لا يُستهان بها تاريخياً، في إطار علاقات تأثير وتأثر وتفاعُل بينها وبين مختلف مكونات محيطها. مع الإشارة إلى أن الدراسات ذات الطبيعة الإقليمية تكتسي أهمية قصوى، لِمَا توفره للباحثين من إمكانيات قد لا توفرها لهم دراسات أخرى. وتبقى حاضرة تازة وممرها الشهير، مجالاً لم تطله بعد أقلام الدارسين بما يكفي. وإن كانت هناك محاولات علمية قيمة لأبناء المنطقة، المستقصين لأخبارها في المصادر التاريخية المغربية والمراجع الأجنبية الاستعمارية، من دراساتٍ وتقاريرَ بلُغات أجنبية لبعضِ من زارها واستوطنها زمناً، وهو ما بدأ يكتسي في السنوات القليلة الماضية طابعا أكاديمياً.
إن الحاجة مُلِحة لتوجيه الباحثين للاهتمام بالعمل المنوغرافي والبحث الميداني، مع ضرورة اعتماد مادة مصدرية وثائقية في حوزة الأهالي والزوايا والمساجد، والمكتبات الوطنية والخزانات الأجنبية. لأن مدننا وقرانا في حاجة ماسة لجهود أبنائها، قصد استخراج كنوزها المخطوطة الدفينة وإبراز تاريخها وحضارتها. وهذا العمل الذي يهم فترة تاريخية دقيقة، تميزت ببروز وتزايد أطماع استعمارية فرنسية في المغرب عموماً وفي تازة تحديداً، منذ منتصف ق19م والى غاية مطلع ق20م. يروم لفت الانتباه لهذه الحاضرة ولجوانبَ من بنيتها ومورفولوجيتها وسوسيوثقافتها وتاريخها، مع الوقوف على استراتيجية احتلال ممر تازة بإبراز أسُسِهَا وآلياتها. ولعل الكتاب يعكس في ثنايا صفحاته ما يطبع تازة من قيمة متميزة، كأحدَ الروافد العلمِية التي شكلت حصناً منيعاً على مر عصورها التاريخية، وأحدَ أبرزِ المعاقل العتيقة التي ساهمت بدور فعال في تشكيل وبلورة تاريخ المغرب. بمعالمها وأعلامها ومؤسساتها وفئاتها الاجتماعية.
واختم بمقولة للدكتور عبد الهادي التازي رحمه الله:”(..) تلك هي تازة، وأن على أبنائها اليوم أن يقوموا بكتابة تاريخها في شتى الميادين، عليهم وحدهم تقع تبعات التعريف بهذه الماسة التي نسميها تازة(..)”. ولعل مثل هذه الأبحاث وغيرها ستسهم إن من قريب أو بعيد في ما يخدم التاريخ المحلي، الذي يُعد لبنةً أساسية في التاريخ الثقافي الوطني العام. كما أنها بمثابة بداية لمشروع علمي لايزال أمامه الكثير، في سياق خدمة ثقافة مستندة إلى ما هو محلي باعتبارها عاملا أساسياً في بناء الذاكرة الوطنية. فالاهتمام بالمحلي طريق لرسم معالم تاريخ وطني، وهذا ما أشار إليه أيضاً د. عبد الهادي التازي في تقديمه لإحدى دراسات ذ.امحمد الأمراني، حيث قال: «(..) لو أن كل واحد ممن ينتسب لإقليم أو جماعة أو مدينة أو قرية، جند قلمه لاستيعاب الأحداث التي شهدتها جهتهم كيفما كانت تلك الأحداث : ظواهر طبيعية، علاقات إنسانية وحتى ولو مما تناقلته الروايات الشفوية، والأساطير الشعبية التي تظل مصدراً حياً من مصادر تاريخ المغرب. لو أن كل ذلك تحقق، لكوَّنا حصيلة تنفع الذين يؤرخون لحياتنا الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية (…)”. ومسك الختام يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الرعد الآية 17: “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ” صدق الله العظيم.
وكتاب “تازة..الممر والمستَقر..” الذي جاء بفهرس لأسماء أماكن وآخر لأعلام بشرية وببيليوغرافيا هامة، ورد في خلاصته أنه لم يستنفد كل شيء في تغطيته لتفاعلات مكان محددٍ في زمن محددٍ. وأن ما يحتويه من شأنه تشكيل حافز لأعمال أخرى بتفكيكها لقضايا في نفس الاتجاه، وإبراز معطيات تاريخية لاتزال في حكم المغمور خدمة لمعرفة تاريخية علمية من جهة، وإغناء وعاء نصوص بقيمة مضافة من أجل خزانة تاريخية وطنية ومحلية من جهة ثانية. مع اشارة الى أن المهم والأهم من الكتابة والكتاب هو أهمية إقبال الباحث والمهتم على كتابة تاريخ مدينته ومنطقته وجهته ومن خلال ذلك تاريخ بلاده، كيفما كانت حصيلة عمله وجهده وعياً بأن أهم ما يمكن أن يسهم به ويترتب عن اهتمامه، هو عودته لوقائع وتفاعلات تاريخية من جديد وانفتاحه على تفاصيل ووثائق ومقاربات وتركيب تاريخي أهم وأفيد.