
لم يكن بوعلام صنصال مجرد كاتب يكتب من هامش المجتمع، بل كان صاحب قلم مشحون بالوضوح والجرأة، استطاع أن يحفر اسمه في الأدب الفرنكفوني، لكنه أيضا اصطدم بجدار نظام لا يغفر للمثقفين أن يتحدثوا خارج النص الرسمي. اليوم، يقبع صنصال في السجن، ليس لأنه ارتكب جرما، بل لأنه قال ما لا يقال في الجزائر: إن الصحراء مغربية، ليس فقط الغربية، بل والشرقية أيضا.
في رواياته التي ترجمت إلى لغات عدة، لم يكن صنصال يجامل. كتب عن النازية، وعن الدولة العسكرية، وعن الفساد، وعن الخوف الذي يزرع في النفوس قبل الأجساد. لكن أقوى كتبه لم يكن مطبوعا، بل خرج من فمه، في مقابلة صحفية، حين تحدث عن الصحراء الشرقية وقال إنها تاريخيا أراض مغربية اقتطعتها فرنسا ووهبتها للجزائر الاستعمارية.
هذا الموقف الصريح لم يغتفر له. فقد تعدى بذلك حدود “الاعتراف بمغربية الصحراء الغربية” التي تثير حساسية مزمنة لدى النظام الجزائري، ليتحدث عن الصحراء الشرقية التي يرى كثيرون أنها “العقدة التاريخية الأعمق” التي تفسر عداء الجزائر المزمن تجاه المغرب.
لكن من يقرأ أعمال بوعلام صنصال يعرف أنه لم يكن يومًا طارئا على هذا الخط. ففي روايته “قسم البرابرة”، يصف الجزائر بأنها بلد تخلى عن العقل، غارق في البيروقراطية، تحكمه شبكات خفية تنشر الرعب وتستثمر في الفوضى.
أما في روايته الشهيرة “2084: نهاية العالم”، فقد وجه نقدا لاذعا للأنظمة الشمولية التي تمسخ المواطن وتحوله إلى عبد لإيديولوجيا واحدة، في إسقاط واضح على الحكم المطلق في الجزائر الذي يستثمر في الخوف والاستبداد.
في “القرية الألمانية”، قارن بين النازية وبين الاستبداد الديني والعسكري في الجزائر، ليقول إن الجريمة لا تكون فقط في القتل، بل أيضا في تزوير الوعي والتاريخ والهوية.
وحتى في كتابه “الكاتب”، المليء بالسخرية السوداء، لم يتوقف عن وصف النظام السياسي الجزائري بأنه “حالة استعمار داخلي”، وأن النخبة الحاكمة تمارس نفس عقلية المحتل الفرنسي ولكن بلغة قومية وشعارات ثورية.
اليوم، وبعد تصريحاته بشأن مغربية الصحراء الشرقية، اختار النظام الطريق الأسهل: الاعتقال، المحاكمة، والسجن. حكم عليه بخمس سنوات نافذة، بتهمة “المساس بالوحدة الوطنية”، في محاكمة وصفها حقوقيون بـ”الانتقامية”.
المنظمات الدولية لم تصمت. فقد طالبت هيئات حقوقية عالمية، منها “مراسلون بلا حدود” و”هيومن رايتس ووتش”، بإطلاق سراح بوعلام صنصال فورا، محمّلة النظام الجزائري، الذي تسميه أصوات معارضة بـ”نظام الكبرانات”، المسؤولية الكاملة عن سلامته وحريته.
لكن الملفت أكثر هو صمت وسائل الإعلام، سواء داخل الجزائر أو خارجها. فمعظم الصحف والقنوات التزمت الصمت في التعريف بقضية صنصال، واختارت تجاهل محنته. هذا في وقت تهرول فيه نفس المنابر إلى التنقيب والتمحيص عندما يتعلق الأمر بأي واقعة داخل المغرب، ولو كانت ثانوية.
وعلى مستوى الإعلام الدولي، فإن الأغلبية الساحقة غضّت الطرف عن هذه الجريمة الحقوقية الصارخة، في تناقض فاضح مع مواقفها المعلنة بشأن حرية التعبير. بل إن كثيرا من المنصات الدولية، التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، تتحامل على المغرب بشراسة كلما أتيحت لها الفرصة، لكنها تقابل قمع الأصوات في الجزائر بالتجاهل أو التبرير، مما يكشف ازدواجية المعايير التي تهيمن على المشهد الإعلامي العالمي.
إن ما يعيشه صنصال اليوم ليس جديدا على من عرف تاريخ النظام القائم في الجزائر. فهذا النظام بني على جماجم المناضلين، وجثث الحقوقيين، وصرخات المثقفين الذين حلموا بدولة مدنية، فوجدوا أنفسهم في مواجهة دولة أمنية لا تقبل الرأي الآخر، حتى وإن جاء من رموز الفكر.
بوعلام صنصال لم يكن مجرد كاتب روائي، بل مفكر مزعج، وضمير حر، ورجل قال للتاريخ “أنا شاهد”. لهذا تضيق به الزنزانة ولا يتسع له الوطن.