
في خضم التحولات العالمية المتسارعة التي تعيد صياغة مفاهيم العدالة والتمكين، برزت مداخلة وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ناصر بوريطة، في المؤتمر الوزاري الرابع للدبلوماسية النسوية المنعقد بباريس، كرسالة سياسية ودبلوماسية تحمل دلالات عميقة حول موقع المرأة في المشروع الإصلاحي المغربي الذي انطلق قبل ربع قرن تحت قيادة الملك محمد السادس.
بوريطة أكد أن المملكة اختارت منذ 25 سنة مسارا لا رجعة فيه نحو تحقيق المساواة بين النساء والرجال، من خلال إصلاحات دستورية وتشريعية ومؤسساتية غيرت ملامح المجتمع المغربي، موضحا أن هذه التحولات “لم تكتف بتعديل النصوص القانونية، بل غيرت روح جيل بأكمله”، في إشارة إلى البعد الثقافي والاجتماعي العميق الذي رافق الإصلاح القانوني.
هذا الموقف يكشف أن المغرب لم يتعامل مع قضايا المرأة باعتبارها ملفات ظرفية أو استجابة لضغوط خارجية، بل جعل منها ركيزة أساسية في رؤيته التنموية والسياسية. فالإصلاحات المتراكمة منذ مطلع الألفية — من مدونة الأسرة إلى دستور 2011 — تعكس توجها استراتيجيا يجعل المساواة بين الجنسين جزءا من بناء الدولة الحديثة، لا مجرد مطلب حقوقي.
وفي سياق السياسة الخارجية، أبرز بوريطة أن انضمام المملكة إلى “مبادرة السياسة الخارجية النسوية” يجسد إرادة المغرب في جعل المساواة قيمة عابرة للحدود، مذكرا بأن رؤية الملك محمد السادس تعتبر حقوق المرأة والمساواة ركيزة وطنية وأحد محركات النمو الديمقراطي.
الأرقام التي قدمها الوزير تعكس تحولا ملموسا في البنية المؤسسية للدبلوماسية المغربية: 43% من موظفي الوزارة نساء، و47% مناصب مسؤولية، و45 تمثيلية دبلوماسية وقنصلية تقودها نساء، بينها 21 سفارة و24 قنصلية. وهي مؤشرات تجعل من المغرب نموذجا عربيا وإفريقيا في تمكين المرأة داخل العمل الدبلوماسي، بعد أن ارتفعت نسبة السفيرات من 4% سنة 2004 إلى 21% سنة 2024.
لكن ما يجعل هذا التحول أكثر عمقا هو اتساع نطاقه ليشمل مجالات حفظ السلام، الوساطة، التكوين، ومحاربة التطرف. فالمغرب — كما أوضح بوريطة — يعد تاسع مساهم عالمي في عمليات حفظ السلام بـ 3400 جندي من القبعات الزرق، من بينهم 120 امرأة، إضافة إلى تكوين 175 مراقبة انتخابية إفريقية خلال الفترة 2022–2025، وهو ما يعكس انتقال التجربة المغربية من الداخل إلى الإشعاع القاري والدولي.
هذا التوجه يوضح أن الدبلوماسية النسوية المغربية لا تقدم كامتياز أو شعار تجميلي، بل كمقاربة تقوم على الاستحقاق والمساواة الفعلية، وتستند إلى رؤية تدمج المرأة في صناعة القرار السياسي والدبلوماسي، بما يضمن الاستمرارية والفعالية.
وفي ختام كلمته، اقترح بوريطة إنشاء برنامج تكوين مشترك في الدبلوماسية النسوية، وتعزيز الشراكات الثنائية والثلاثية بين الدول الأعضاء في المبادرة، من أجل تحويل المبادئ إلى مشاريع واقعية في مجالات الوساطة والمناخ والمناصب الدولية.
بهذا الخطاب الواضح، رسخ المغرب حضوره في النقاش الدولي حول الدبلوماسية النسوية ليس كمتلق للأفكار، بل كفاعل يصوغ نموذجا متفردا يزاوج بين المرجعية الوطنية والانخراط في القيم الكونية للمساواة، في انسجام تام مع مساره الإصلاحي الذي يقوده الملك محمد السادس منذ ربع قرن بثبات ووضوح في الرؤية.




