
لا تمر سنة في المغرب دون أن تعلن آلاف المقاولات الصغرى والمتوسطة إفلاسها. ومع كل تقرير جديد، يتكرر نفس الخطاب الرسمي: برامج دعم، تسهيلات بنكية، تحفيزات ضريبية. لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير. إفلاس هذه المقاولات ليس حادثا عرضيا، بل نتيجة بنية اقتصادية مختلة، تتحكم فيها قوى السوق لصالح رأس المال الكبير، وتدار وفق منطق ربح سريع لا يترك أي مجال للهامش أو التنوع.
الربح السريع يقصي المقاولة البطيئة
في منطق السوق المفتوح، تكون سرعة الإنتاج والتوزيع حاسمة في تحقيق الربح. وهنا تتفوق المقاولات الكبرى بفضل امتلاكها:
آليات إنتاج ضخمة وعالية الكفاءة
سلاسل توزيع واسعة ومنظمة
قدرات تفاوض قوية مع الموردين والموزعين
تغطية إعلامية وتسويقية كثيفة
أما المقاولة الصغرى، فغالبا ما تفتقر إلى هذه الأدوات. الإنتاج أبطأ، الكلفة أعلى، والتوزيع محدود. والنتيجة؟ عجز عن مواكبة الأسعار التنافسية، فيسقط هامش الربح إلى مستويات غير قابلة للبقاء.
تحرير الأسعار دون ضبط السوق: وصفة للإبادة التجارية
حرية الأسعار، في ظل غياب ضبط فعلي للسوق، تؤدي إلى تمركز القوة عند الأقلية. في المغرب، نشهد ذلك بوضوح:
شركات قليلة تتحكم في سوق الكازوال، وترفع الأسعار دون سقف رقابي حقيقي
لوبيات تتحكم في واردات الأسمدة والبذور، وتفرض شروطا قاتلة على الفلاح الصغير
موزعون كبار يحتكرون سوق الأدوية، ويغلقون الأبواب أمام المبادرات الصغرى
بهذه الطريقة، يترك الصغير ليتصارع مع السوق، دون حماية، في وقت يلتهم فيه الكبير الحصة الكبرى من الطلب والربح.
قوانين وضرائب: مقصلة غير مرئية
لا يقتصر الإعدام الاقتصادي على المنافسة غير المتكافئة، بل يتجلى أيضا في العبء التشريعي والجبائي الذي يثقل كاهل المقاولات الصغرى:
الضرائب المفروضة لا تأخذ بعين الاعتبار هشاشة هذه الوحدات، بل تخضع لنفس المنطق الجبائي المطبق على الشركات الكبرى
التصريح بالضرائب، وتقديم الملفات، ومسك المحاسبة، تتطلب كفاءات وتكاليف تفوق قدرة المقاول الصغير
الغرامات والتأخيرات الإدارية لا ترحم، وتتحول بسرعة إلى مذكرات استخلاص قد تنهي نشاط المقاولة نهائيا
القوانين المفروضة على التوظيف والتأمين الاجتماعي، رغم عدالتها من حيث المبدأ، لا تراعي واقع المقاولات الميكروية التي تعمل على الهامش
في الواقع، يجد المقاول نفسه في مواجهة إدارة لا تفرق بين شركة عملاقة ومقاولة فردية بالكاد تؤمن قوت يومها.
الاقتصاد السياسي: منطق رأس المال لا يرحم الضعيف
في الاقتصاد السياسي، لا يكفي تحليل الأرقام دون فهم من يملك ماذا؟ ومن يربح؟ ومن يتحكم؟
في المغرب، يتبين أن عددا من الفاعلين الاقتصاديين الكبار إما مرتبطون بمجموعات مالية ذات نفوذ، أو يتحكمون في أدوات القرار الاقتصادي بشكل مباشر أو غير مباشر. وهذا ما يجعل من الصعب خلق بيئة تنافسية متوازنة.
على سبيل المثال:
في الجنوب الشرقي، استثمارات أجنبية ضخمة في زراعة التمر المجهول دمرت الفرشة المائية، ما أدى إلى انهيار الضيعات التقليدية، وتراجع مقاولات التعبئة والتسويق المحلي.
في قطاع النقل والخدمات اللوجستيكية، تتحكم شركات قليلة في أساطيل عملاقة، وتستفيد من اتفاقيات تفضيلية، بينما المقاولات الصغرى تموت بسبب أسعار المحروقات والرسوم.
في قطاع المقاولات التكنولوجية الناشئة، تواجه الشركات الصغيرة صعوبة في الوصول إلى الصفقات العمومية، لأن الشروط التقنية والقانونية تصب في صالح الكيانات الكبرى.
الربح مركز، والخسارة موزعة
ما يحدث اليوم هو أن الربح يعاد تركيزه في يد القلة، والخسارة توزع على الآلاف.
وهذا يخالف كل المبادئ التي يفترض أن يقوم عليها الاقتصاد المنتج والعادل، لأن النمو الحقيقي لا يتحقق إلا حين تنتعش القاعدة، وليس فقط القمة.
مطلوب تغيير النموذج لا فقط تغيير البرامج
ما تحتاجه المقاولات الصغرى ليس فقط تمويلا إضافيا، بل تغييرا في قواعد اللعبة:
ضبط الأسعار الاستراتيجية لا يمكن أن يُترك للسوق وحده
تحرير المنافسة لا يجب أن يعني قتل الضعيف
دعم الاستثمارات يجب أن يترافق مع حماية المنتوج المحلي
الطلب العمومي يجب أن يفتح أمام الفاعلين الصغار بشروط منصفة
القوانين الضريبية يجب أن تكيف بحسب حجم ونشاط المقاولة، وليس أن تفرض كوصفة موحدة على الجميع
فمن غير المنطقي أن نطلب من مقاولة صغيرة أن تنتج بنفس الكلفة والسرعة والجودة التي تنتج بها مجموعة رأسمالية عملاقة.
الاقتصاد الإسلامي: خيار بديل لا يطرح بجدية
في خضم هذه الأزمة المتصاعدة، نادرا ما يطرح الاقتصاد الإسلامي كبديل واقعي وفعال لإنقاذ المقاولات الصغرى. واللافت أن المغرب، رغم توفره على منظومة بنكية تشاركية وقوانين تأطيرية للاقتصاد التشاركي، إلا أن هذا المسار لم يتحول إلى رافعة حقيقية للمقاولة الصغيرة.
الاقتصاد الإسلامي، إذا طبق برؤية عادلة وغير تجزيئية، يمكن أن يقدم حلولا عميقة تتجاوز الدعم المؤقت:
التمويل بدون فوائد (عبر المضاربة، المرابحة، الإجارة، والمشاركة) يحرر المقاول من الديون الخانقة التي تفرضها البنوك التقليدية
تقاسم المخاطر بدل تحميلها للطرف الأضعف يسمح بنمو مشاريع ناشئة بدون تهديد بالإفلاس عند أول عثرة
الزكاة، إن تم توجيهها بفعالية، يمكن أن تصبح أداة مباشرة لدعم المقاولات الهشة
القيم الأخلاقية في المعاملات التجارية تعيد الاعتبار للثقة والنية الحسنة في العقود، بدل منطق الاستغلال والعقوبات
غير أن هذا التوجه يصطدم اليوم بثلاث عقبات رئيسية:
- ضعف الإرادة السياسية في تحويل الاقتصاد التشاركي من تجربة محدودة إلى خيار استراتيجي
- غياب تحفيزات ضريبية وقانونية تشجع المقاولات على اختيار التمويل الإسلامي
- هيمنة النموذج النيوليبرالي الذي يعتبر السوق ملكا خالصا لرأس المال، لا لمبادئ التوازن والعدالة
فتح المجال أمام الاقتصاد الإسلامي ليس فقط استجابة لعقيدة أو رغبة فئوية، بل ضرورة اقتصادية حقيقية، في بلد تتعثر فيه الحلول الجاهزة، ويترك فيه الآلاف من المقاولين الصغار فريسة لنظام مالي لا يرحم.
إن إفلاس المقاولات الصغرى ليس مجرد فشل فردي، بل نتيجة خيارات اقتصادية وتشريعية تعيد إنتاج التفاوت، وتمنح الامتيازات لمن يملك، وتثقل كاهل من يجتهد.
العدالة الاقتصادية تبدأ حين تُكسر الحلقة المغلقة للاحتكار، وتفتح السوق للجميع، لا لمن يملك فقط رأس المال، بل أيضا لمن يملك الفكرة، والنية، والعمل.