العنف ليس حادثاً… بل لغة مجتمع ينهار بصمت

في ظرف زمني قصير، تكاثرت الوقائع الدامية بشكل لا يمكن اعتباره صدفة أو مجرد انحرافات فردية: امرأة تقتل ابنتها في أصيلة وتحاول الانتحار، رجل يقتل زوجته وطفله في مراكش، خروج امرأة من السجن بعفو بعد جريمة قتل بشعة في حق زوجها بتواطؤ مع عشيقها، اغتصاب طفل، تفكيك شبكة دعارة تقودها امرأة تستغل فتيات، قضية تشهير بعد طلاق مكلف تنتهي بخطاب حقوقي يختزل كل شيء في الانهيار النفسي. كل هذا يحدث بينما تُرفع في الفضاء العام شعارات مناهضة العنف ضد المرأة، وتُعقد الندوات، وتُصاغ البلاغات، وكأن المجتمع يعيش مفارقة عبثية: العنف يتكاثر كلما كثر الكلام عنه. هذا التناقض ليس عرضياً، بل يكشف أن النقاش السائد لا يلامس جوهر المشكلة، بل يدور حولها بحذر، أو يستعملها كواجهة أخلاقية.
العنف الذي نعيشه اليوم ليس عنف جنس ضد جنس، بل عنف بنيوي شامل، عنف يتغلغل في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والرمزية. بيير بورديو سمّى هذا الشكل من السيطرة بـ“العنف الرمزي”، ذلك العنف غير المرئي الذي يُمارَس عبر التربية، اللغة، الأعراف، وسوق الشغل، ويُفرض باعتباره طبيعياً ومقبولاً. حين يُربّى الفرد على القبول بالإذلال اليومي، وعلى التطبيع مع الهشاشة، وعلى اعتبار المعاناة قدراً شخصياً لا نتيجة لبنية مختلة، فإن العنف لا يختفي، بل يتراكم في الداخل. ما نراه اليوم من انفجارات دموية ليس سوى لحظة انكشاف لهذا التراكم، حين تفشل البنية في احتواء تناقضاتها.
من منظور فرويدي، لا يمكن فصل هذه الوقائع عن الكبت المزمن الذي يعيش فيه الأفراد داخل مجتمع يطالبهم بالصمت والطاعة والتكيّف القسري. الفقر، البطالة، العمل الهش، الضغط الأسري، انعدام الأفق، كلها تنتج طاقة نفسية مكبوتة لا تجد منفذاً صحياً للتفريغ. وحين يطول الكبت، تتحول غريزة الحياة إلى ما سماه فرويد “غريزة الموت”، نزوع تدميري قد يتجه نحو الذات في شكل انتحار، أو نحو الآخر في شكل قتل أو اغتصاب أو عنف مفرط. لذلك فإن اختزال الجرائم في “خلل فردي” أو “مرض نفسي معزول” ليس سوى تهرب جماعي من المسؤولية، لأن المرض الحقيقي كامن في البنية التي تُنتج هذا الاختلال.
الخطاب السائد حول العنف ضد المرأة، رغم مشروعية جزء منه، يتحول في كثير من الأحيان إلى خطاب انتقائي يعزل المرأة عن سياقها الاجتماعي والاقتصادي، ويحولها إما إلى ضحية مطلقة أو إلى رمز أخلاقي منزّه عن النقد. لكن الواقع أكثر تعقيداً: المرأة اليوم قد تكون ضحية، وقد تكون فاعلاً في إعادة إنتاج العنف، وقد تكون في الحالتين معاً، لأنها تتحرك داخل نفس البنية الضاغطة. استغلال النساء في المصانع والضيعات الفلاحية، بعقود هشة وأجور زهيدة وظروف لا إنسانية، هو عنف ممنهج لا يقل قسوة عن العنف الأسري، لكنه نادراً ما يحظى بنفس الزخم، لأنه يخدم اقتصاداً رأسمالياً يرى في المرأة يداً عاملة مرنة ومصدراً للربح. هنا يتحول “تمكين المرأة” إلى شعار أجوف يُستعمل لإدماجها في دورة الاستغلال لا لتحريرها منها.
وفي الفضاء الرقمي، تتخذ الهيمنة شكلاً أكثر خبثاً. يُسوَّق الجسد بوصفه حرية فردية، بينما هو في الواقع خضوع لمنطق السوق والبوز والطلب الاستهلاكي. هذا الشكل من العنف الرمزي يجعل الاستغلال يبدو اختياراً، ويحوّل الضحية إلى شريك في تسليع ذاتها، دون أن يلغي البنية التي دفعتها إلى ذلك. بورديو كان سيسمي هذا “تواطؤ المهيمن عليه مع هيمنته”، حيث تُستدمَج القواعد حتى تصبح جزءاً من الهوية.
أما التنشئة، فهي المصنع الأول لكل هذا العنف. بيت يُقمع فيه التعبير العاطفي، مدرسة تُلقّن ولا تُفكّر، إعلام يمجد القوة والسطحية، كلها تساهم في إنتاج أفراد عاجزين عن الفهم والتواصل، وسريعين إلى الانفجار. نحن لا نربي على إدارة الغضب، ولا على التفكير النقدي، ولا على الصحة النفسية، ثم نتفاجأ حين يتحول التوتر اليومي إلى جريمة. العنف لا يولد فجأة، بل يُربّى بصبر داخل تفاصيل الحياة الصغيرة.
دور جمعيات المجتمع المدني، في كثير من الحالات، لم يخرج عن هذا الإطار السطحي. اختارت خطاباً مريحاً، قابلاً للتسويق والتمويل، يختزل العنف في معادلة بسيطة: رجل معتدٍ وامرأة ضحية. هذه المقاربة، رغم نواياها المعلنة، تعجز عن تفكيك الجذور، لأنها ترفض الاعتراف بأن العنف هو نتاج بنية اجتماعية واقتصادية ونفسية واحدة، تُنتج الجاني والضحية معاً. محاربة العنف لا تكون بتأنيث الضحية وتذكير الجاني، بل بكشف النظام الذي يصنع الاثنين.
ما نعيشه اليوم ليس سلسلة حوادث، بل مرآة مجتمع مأزوم يتحدث بلغة الدم حين يعجز عن الكلام. العنف ليس استثناءً، بل تعبير صريح عن فشل جماعي في التربية، والعدالة الاجتماعية، والسياسات العمومية، وفي شجاعة مواجهة الذات. وكل نقاش لا ينطلق من هذا العمق، سيظل مجرد ضجيج أخلاقي يرافق الانهيار… لا يمنعه.




