العمال المغاربة رافعة خفية في التحول الاقتصادي الإسباني

يشهد سوق الشغل الإسباني خلال السنة الجارية ارتفاعًا غير مسبوق في عدد العمال الأجانب، وهو تطور يكشف تحوّلًا عميقًا في بنية الاقتصاد المحلي الذي أصبح يعتمد بشكل متزايد على اليد العاملة القادمة من الخارج لسدّ الخصاص المتصاعد. وفي قلب هذا التحول يبرز الحضور القوي للعمال المغاربة الذين يشكّلون اليوم إحدى أهم الركائز غير المعلنة في استمرار الدورة الإنتاجية داخل إسبانيا.
ففي القطاع الفلاحي، الذي يعدّ أكثر القطاعات استهلاكًا لليد العاملة، أصبح المغاربة يشكّلون العمود الفقري لعمليات الجني والزراعة بمختلف مناطق الجنوب الإسباني. ويعود ذلك إلى ثلاثة عناصر متداخلة: خبرة متراكمة، مرونة في التعاقد، واتفاقيات ثنائية سهّلت استقدام العاملات والعمال الموسميين. وقد أدى هذا الحضور المكثّف إلى خلق وضع paradoxal تتعايش فيه ضرورة اقتصادية ملحّة مع هشاشة اجتماعية واضحة، حيث يظل الكثير من هؤلاء العمال تحت ضغط ظروف عمل صعبة وموسمية، رغم أنهم جزء لا يتجزأ من الأمن الغذائي الإسباني.
وفي قطاع البناء، الذي يشهد طفرة جديدة بفعل مشاريع السكن والبنية التحتية، يتحمل المغاربة النصيب الأهم من الأعمال الشاقة التي يعزف الشباب الإسباني عن القيام بها. وهو ما يجعلهم في موقع لا غنى عنه بالنسبة للشركات الكبرى التي تبحث عن يد عاملة مستقرة وقادرة على تحمل إيقاع العمل المرتفع. الأمر ذاته ينسحب على قطاع الخدمات؛ من المطاعم والنقل والحراسة إلى التجارة الصغيرة، حيث أعاد الحضور المغربي رسم المشهد الاجتماعي والاقتصادي للمدن الكبرى، وبرزت مقاولات مغربية صغيرة أصبحت جزءًا من النسيج الاقتصادي المحلي.
هذا الاعتماد المتنامي يكشف تحولًا أعمق: فإسبانيا لا تواجه فقط خصاصًا عابرًا في اليد العاملة، بل أزمة ديموغرافية مركّبة تقوم على شيخوخة المجتمع وتراجع عدد المواليد، ما يجعل الهجرة –وبالأساس الهجرة المغربية– عنصرًا محوريًا في الحفاظ على استمرارية الضمان الاجتماعي ودينامية السوق. وهنا يظهر العامل المغربي كفاعل اقتصادي أساسي، لكنه في الوقت نفسه يظل الحلقة الأضعف داخل المعادلة؛ فهو يساهم في تحريك الاقتصاد، لكنه لا يحصل دائمًا على الاعتراف الاجتماعي والقانوني الذي يعكس حجم دوره.
وعلى المستوى السياسي، يتحول وجود العمال المغاربة في كثير من الأحيان إلى مادة للجدل بين الأحزاب الإسبانية. فبينما تتبنى الحكومة خطابًا براغماتيًا يرى في الهجرة ضرورة اقتصادية لا يمكن التخلي عنها، تستثمر بعض التيارات اليمينية الملف لخلق خطاب التخويف والربط بين الهجرة وتهديد الهوية أو فرص العمل، رغم أن الأرقام الرسمية تفند هذه الادعاءات وتُظهر أن العمال المغاربة يسدّون فراغًا لا يريده الإسبان أنفسهم.
أما في العلاقات الثنائية بين الرباط ومدريد، فقد أصبحت الهجرة ورقة مركزية تُستخدم بطرق مباشرة وغير مباشرة. فعندما تكون العلاقات مستقرة، تتوسع برامج الاستقدام وتنشط الاتفاقيات، وحين تتوتر ترتفع لغة التشدد ويزداد الضغط على العمال الأجانب، رغم أن الاقتصاد الإسباني لا يستطيع تحمل خسارة هذه اليد العاملة. وهنا يتضح أن العامل المغربي يؤدي، من موقعه البسيط، دورًا مهمًا في توازن المصالح بين البلدين، رغم أنه لا يشعر دائمًا بأنه مستفيد من هذا الدور.
في المحصلة، يكشف ارتفاع عدد العمال المغاربة في إسبانيا عن علاقة معقدة تجمع بين الضرورة الاقتصادية والهشاشة الاجتماعية، وبين الاعتراف غير المعلن والاعتماد البنيوي الذي يصعب على مدريد تجاوزه. فالاقتصاد الإسباني يحتاج هؤلاء العمال للحفاظ على استقراره، لكن الحاجة وحدها لا تكفي ما لم ترافقها سياسات تحمي حقوقهم وتعزز اندماجهم. فبدون حماية حقيقية، يبقى العامل المغربي مجرد رافعة خفية يستفيد منها الاقتصاد دون أن تنعكس مكاسبه عليه؛ وبدون العمال المغاربة، يفقد السوق الإسباني أحد أهم مصادر قوته ومرونته في زمن يعرف تغيرات ديموغرافية وهيكلية عميقة.




