الحياد في الصحافة: موقف أخلاقي أم تواطؤ مفضوح؟

قبل أن نتحدث عن الحياد كقيمة صحفية، فلننظر أولا إلى جريدة “لوموند” الفرنسية، واحدة من أكثر المنابر الإعلامية ادعاءً للموضوعية والحياد. هذه الجريدة، التي طالما صدرت نفسها كمرآة للعالم المتحضر، لا تتوانى عن تلميع صورة الدولة الفرنسية، وتبرير تدخلاتها العسكرية في إفريقيا، وتغطية انتهاكاتها الحقوقية بعبارات ملتوية.
هي الجريدة ذاتها التي سخرت صفحاتها للتشويه الممنهج لدول الجنوب، من المغرب إلى الجزائر، ومن مالي إلى الكونغو، بينما تغض الطرف عن قضايا الفساد الداخلي، وتصاعد العنصرية، وتضخم اليمين المتطرف داخل فرنسا.
لوموند ليست وحدها. فـ”الحياد” عند كبريات القنوات العالمية مثل CNN أو BBC يتحول إلى أداة للتمويه. في تغطيتها لفلسطين، تصف المجازر بـ”الاشتباكات”، وتجعل من المحتل ضحية ومن المقاوم إرهابيا. كل ذلك يجري تحت يافطة “الحياد التحريري”، الذي يستخدم كسلاح ناعم لتزييف الوعي وقلب الحقائق.
فهل ما زال الحياد الصحفي قيمة أخلاقية؟ أم أنه تحول إلى تواطؤ مقنن مع السلطة والمال والسلاح؟
الحياد، كما يروج له اليوم، بات قناعا زائفا يستخدم لتلميع الجريمة، وليس لكشفها. يُطلب من الصحفي أن “ينقل الصورة كما هي”، لكن أي صورة تلك التي تنقل طفلا يبتسم ولا تُظهر رجله المبتورة؟ أو كاميرا تلتقط دمارا بعد قصف، دون أن تذكر من أطلق الصواريخ؟
إن الوظيفة الحقيقية للصحافة ليست فقط نقل الواقع، بل فضحه وتحليله وتفكيكه. مهمة الصحفي ليست أن يكون شاهدا أخرسا، بل أن يكون صوتا للذين لا صوت لهم، ومرآة للمظلومين، وعدسة للجرح لا للابتسامة الزائفة.
لكن ما نعيشه اليوم هو اختزال لدور الصحافة في نقل سطحي، مفرغ من المضمون، يروج باسم المهنية. حياد يمارس فيه الصحفي دور “المراسل البريء” الذي لا يرى إلا ما يسمح له برؤيته، ولا يصف إلا ما يؤمر به وصفه.
في هذا السياق، تتحول بعض المنابر إلى شركاء في الجريمة. لا فرق بينها وبين الجناة. فهي تسوّق الأكاذيب على أنها حقائق، وتغسل دماء الضحايا بمصطلحات “رصينة”، وتُخدر الوعي الجماعي بما يسمى بـ”الرأي والرأي الآخر”.
الحياد الصحفي، حين يُستعمل لتبرير الإبادة، أو تزييف الصراع، ليس حيادا، بل خيانة. هو استسلام للهيمنة، وتخلي عن دور الصحافة التاريخي كسلطة رابعة تقف إلى جانب الشعوب، لا إلى جانب الجلاد.
إننا نعيش اليوم زمنا يختلط فيه الحياد بالتواطؤ، والموضوعية بالخيانة، والمهنية بالخنوع. ومن العار أن تتحول الصحافة إلى سلعة تُباع في أسواق النفوذ، بدل أن تظل منارة للحقيقة والعدالة.
فإلى متى يستمر هذا الانحدار؟ ومتى يستعيد الصحفيون ضميرهم ودورهم، في زمن صار فيه قول الحقيقة جريمة تستوجب السجن أو الإقصاء؟




