الحركة الانتقالية في التعليم العالي.. ملف عالق بين البيروقراطية وغياب العدالة المهنية

منذ سنوات، يعيش أساتذة التعليم العالي في المغرب وضعا استثنائيا لا يليق بمكانتهم الأكاديمية ولا بدورهم في تطوير الجامعة المغربية. فبينما يتمتع موظفو أغلب القطاعات العمومية بحق الانتقال الوظيفي عبر مساطر واضحة ومنصفة، يظل الأستاذ الجامعي رهينة موقعه الإداري والجغرافي، دون أي ضمان قانوني يتيح له الانتقال وفق شروط شفافة أو اجتماعية عادلة.
غياب مسطرة رسمية للحركة الانتقالية داخل قطاع التعليم العالي لم يعد مسألة تنظيمية بسيطة، بل تحوّل إلى أزمة بنيوية تمس جوهر العدالة المهنية، وتؤثر بشكل مباشر على مردودية البحث العلمي والتأطير البيداغوجي. فالأستاذ الذي يعيش حالة تشتت أسري، أو ظروفا اجتماعية صعبة، يظل محكوما بانتظار طويل بلا أفق، لأن أي انتقال يتم خارج إطار واضح يظل خاضعا لمنطق الاستثناء أو العلاقات الشخصية، لا لمعايير موضوعية.
هذا الوضع يكرس، بحسب عدد من الأساتذة، إحساسا عميقا بالحيف والتمييز داخل الجامعة، ويقوّض مبدأ تكافؤ الفرص الذي نص عليه الدستور المغربي. فحرية التنقل ليست امتيازا، بل حقا مهنيا وأخلاقيا يضمن الاستقرار النفسي والاجتماعي، وهو ما يشكل شرطا أساسيا للإنتاج الأكاديمي السليم.
المفارقة أن وزارة التعليم العالي، رغم وعيها المتكرر بالمشكل، لم تبادر إلى وضع نظام شفاف للحركة الانتقالية، يراعي الحاجيات البيداغوجية للمؤسسات من جهة، ويصون الحقوق الاجتماعية للأساتذة من جهة أخرى. فالقرارات ما تزال تُدار بآليات تقليدية تفتقر للشفافية والمأسسة، وكأن الجامعة فضاء إداري مغلق لا يخضع لقواعد الحكامة نفسها التي تسري على باقي القطاعات العمومية.
الأخطر من ذلك أن استمرار هذا الفراغ التنظيمي يهدد تماسك الأسرة الجامعية، إذ يخلق تفاوتات بين مؤسسات حضرية وأخرى نائية، ويجعل بعض الأطر تفضل مغادرة القطاع نحو وظائف أخرى بحثا عن الاستقرار، مما يفرغ الجامعات من الكفاءات ويؤثر على جودة التعليم العالي برمّته.
إن إصلاح هذا الخلل لا يتطلب ميزانية ضخمة ولا شعارات إصلاحية جديدة، بل إرادة سياسية وإدارية صادقة لوضع مسطرة وطنية واضحة، تستند إلى معايير دقيقة تراعي الأقدمية والكفاءة والوضع الاجتماعي والصحي. آلية شفافة يمكن تتبعها إلكترونيا، تضع حدا للغموض والمحاباة، وتعيد الثقة إلى جسم جامعي بدأ يفقد إيمانه بالعدالة المؤسساتية.
الجامعة ليست فقط فضاء للتدريس، بل مؤسسة لبناء الإنسان والمعرفة. ولن تقوم بدورها الكامل في ظل أساتذة يعيشون القلق والانتظار، بدل الطمأنينة والعطاء. إن إقرار حركة انتقالية منصفة ليس مطلبا فئويا، بل خطوة ضرورية لإنقاذ الجامعة المغربية من الجمود الإداري الذي يكبل طاقاتها منذ عقود.



