
في ليلة من ليالي الصيف، بينما تتمايل الأمواج الهادئة قبالة سواحل جزر الكناري، كانت هناك سفينة تشق المياه ببطء، تحمل في أحشائها ما يفوق مجرد شحنة تجارية عادية. كانت تجر وراءها حملا ثقيلا من المخدرات، ما يعادل ثلاث أطنان من الكوكايين، كانت في طريقها لتملأ أسواق أوروبا السوداء، لتعود بعائدات طائلة تغذي شبكات الجريمة المنظمة. لكن تلك الليلة لم تكن كأي ليلة. فالعين التي لا تنام، والمراقبة التي لا تنقطع، جعلت من هذه الرحلة نهاية لا بداية.
في 14 أغسطس 2025، أعلنت السلطات الإسبانية عن واحدة من أكبر عمليات ضبط المخدرات في تاريخها الحديث. لم يكن الأمر مجرد ضبط عادي، بل كان نتاجا لسلاسل من المراقبة الدقيقة، والتحليل الاستخباراتي، والتنسيق الأمني المكثف بين عدة دول، كان المغرب أحد أركانها الأساسية. السفينة “سكي وايت”، لم تكن تدرك أنها منذ أكثر من عام تخضع للمراقبة. بدأت الشكوك حولها في ألمانيا، حيث رصدت أجهزة الاستخبارات نشاطات مشبوهة تتعلق بتهريب المخدرات عبر طرق بحرية غير تقليدية. ومع تقدم التحقيقات، تبين أن هذه السفينة كانت تتحرك في ممرات استراتيجية، تربط أمريكا الجنوبية بأوروبا، مرورا بالمحيط الأطلسي، وتحت ظل شبكة معقدة من التمويه والتلاعب بالهوية.
لكن ما الذي جعل هذه العملية ناجحة؟ الإجابة لا تكمن فقط في التكنولوجيا أو في التحريات، بل في التعاون الاستباقي بين الدول. فبينما كانت السفينة تقترب من جزر الكناري — تلك الجزر الإسبانية التي تقع على مقربة من الساحل المغربي — دخلت مرحلة حاسمة من المراقبة المشتركة. وهنا يظهر الدور المحوري للمغرب. فرغم أن العملية نفذت في المياه الإسبانية، إلا أن الممرات البحرية التي تستخدم لتهريب المخدرات غالبا ما تمر قرب الشواطئ المغربية، بل وتستفيد من التضاريس الجغرافية الدقيقة والحركة الملاحية الكثيفة في مضيق جبل طارق.
المغرب، بحكم موقعه الجيوسياسي الفريد، ليس فقط خطا أماميا في مواجهة تدفق المخدرات، بل أصبح شريكا استراتيجيا في بناء نظام أمني إقليمي فعال. فما يجري في المحيط الأطلسي أو في البحر المتوسط لا يمكن فصله عن ما يحدث في طنجة أو الداخلة أو العيون. والشبكات التي تسعى لاستغلال هذه الفجوات الحدودية تدرك ذلك جيدا، لكن ما لم تعد تدركه هو أن الأجهزة الأمنية في المغرب وإسبانيا لم تعد تعمل في عزلة، بل في تناغم يكاد يكون تلقائيا.
العملية الأخيرة لم تكن الأولى من نوعها، لكنها كانت الأكثر إثباتا لمستوى النضج الذي وصل إليه التعاون الأمني بين البلدين. فقد تضافرت جهود أجهزة من المغرب وإسبانيا، بالتعاون مع نظيراتها في الولايات المتحدة وفرنسا والبرتغال، لرسم صورة كاملة عن الشبكة الإجرامية. لم يكن الهدف فقط إيقاف سفينة، بل كشف البنية التحتية للجريمة العابرة للقارات، وتحديد الخلايا اللوجستية، وتعطيل خطوط الإمداد التي تمتد من فنزويلا إلى أوروبا مرورا بأفريقيا.
ومن الملفت أن طاقم السفينة كان متنوعا: خمسة من بنغلاديش، وأربعة من فنزويلا. هذا المزيج يظهر طبيعة الجريمة المنظمة الحديثة، التي لا تعترف بالحدود، وتستعين بعناصر من خلفيات جغرافية وثقافية مختلفة، بهدف إرباك الأجهزة الأمنية. لكن التنسيق بين المغرب وإسبانيا، القائم على تبادل المعلومات اللحظية، وتناسق العمليات الميدانية، وتنمية القدرات الأمنية المشتركة، جعل من هذه الشبكات عرضة للاختراق.
ولا يمكن تجاهل الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في هذا السياق. فالطائرات بدون طيار، وأنظمة المراقبة الساتلية، وتحليل البيانات الضخمة، أصبحت أدوات حيوية في رصد الحركة البحرية المشبوهة. لكن التكنولوجيا وحدها لا تكفي. ما يصنع الفرق هو الثقة بين الشركاء، والرغبة المشتركة في حماية الأمن الإقليمي. وفي هذا السياق، يبرز المغرب كدولة لا تكتفي بتأمين حدودها، بل تساهم بفعالية في الاستقرار الأمني لجنوب أوروبا.
النجاحات الأخيرة لا تعني أن التحديات قد انتهت. بل على العكس، فإن حجم الشحنة المضبوطة — ثلاث أطنان من الكوكايين، تقدر قيمتها السوقية بنحو 300 مليون يورو — يدل على أن حجم الجريمة العابرة للقارات في تزايد، وأن شبكات التهريب تتحوّل باستمرار. لكنها أيضا تظهر أن الاستجابة الأمنية تتطور بوتيرة أسرع، بفضل التنسيق المكثف والعمل المشترك.
في النهاية، ليست العملية الأمنية مجرد حدث عابر، بل هي تجسيد لعلاقة استراتيجية نضجت عبر السنين. علاقة تقوم على الاحترام المتبادل، والفهم المشترك للتهديدات، والقدرة على التحرك بسرعة وحزم. المغرب وإسبانيا، اللذان يفصلهما بضعة كيلومترات من الماء، يجمعهما اليوم أكثر من مجرد جغرافيا. يجمعهما مشروع أمني مشترك، يهدف إلى حماية مجتمعات بأكملها من شرور الجريمة المنظمة.
وما حدث في أغسطس 2025 ليس انتصارا لإسبانيا وحدها، ولا للمغرب فقط، بل هو انتصار للتعاون، وللفكرة القائلة بأن الأمن لا يمكن أن يكون محليا في عالم تتحرك فيه الجريمة بحرية عبر القارات. فبينما كانت السفينة “سكي وايت” تغرق في أيدي العدالة، كان التنسيق الأمني بين الرباط ومدريد يرتفع كنموذج يحتذى به في مواجهة الظواهر الإجرامية العابرة للحدود.