الذكرى السبعون لعيد الاستقلال: سبعة عقود من معركة السيادة وبناء الدولة بقيادة محمد الخامس

يحيي المغاربة الذكرى السبعين لعيد الاستقلال، وهي محطة لا تُجسّد فقط نهاية مرحلة الاستعمار، بل تختصر مسارًا تاريخيًا طويلًا من التضحيات والنضال السياسي والشعبي، قاده الملك محمد الخامس بحكمة وشجاعة ليجعل من الاستقلال نقطة انطلاق نحو بناء الدولة المغربية الحديثة. فالاستقلال لم يكن حدثًا معزولًا، بل نتيجة مسار تراكمي من المقاومة المسلحة، والتحركات الدبلوماسية، والمواجهة السياسية مع سلطات الحماية التي حاولت بكل الوسائل قطع الرابط بين العرش والشعب.
لقد دخل المغرب في منتصف القرن العشرين مرحلة بالغة التعقيد: ضغط استعماري فرنسي وإسباني، تفكك اجتماعي، ومحاولات لطمس الهوية الوطنية. وفي قلب تلك الأحداث تقدّم محمد الخامس ليمنح للمشروع الوطني بوصلته الواضحة، مؤكدًا أن سيادة المغرب فوق كل اعتبار. وقد ظهر هذا التوجه مبكرًا، خاصة منذ خطاب طنجة سنة 1947 الذي أعلن فيه، بجرأة غير مسبوقة، حق المغرب في الاستقلال ووحدة أراضيه، وهو الخطاب الذي اعتبرته سلطات الحماية بداية نهاية مشروعها الاستعماري.
تزايد التوتر بين القصر والسلطات الفرنسية مع تصاعد الحركات الوطنية، فكان قرار نفي محمد الخامس سنة 1953 إلى كورسيكا ثم مدغشقر محاولة يائسة لكسر الوحدة الوطنية. إلا أن هذا القرار كان نقطة التحول الكبرى في تاريخ المغرب؛ إذ تحوّل النفي إلى رمز للمقاومة، واجتمع الشعب حول ملكه أكثر من أي وقت مضى. فالمقاومة المسلحة التي انتشرت في المدن والجبال، والإضرابات التي شلت الاقتصاد، والضغط الدولي الذي أخذ يتصاعد، كلها عوامل جعلت فرنسا تدرك أن الاستعمار لم يعد قابلًا للاستمرار.
عاد محمد الخامس إلى الوطن سنة 1955 في مشهد تاريخي استعاد فيه المغرب جزءًا من سيادته قبل أن يُعلن الاستقلال رسميًا سنة 1956، إيذانًا بمرحلة جديدة من بناء الدولة. فقد أدرك الملك الراحل أن التحديات الحقيقية لم تكن فقط في طرد المستعمر، بل في إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتوحيد التراب الوطني، وتحديث المجتمع دون التفريط في الهوية المغربية الأصيلة. وهو ما بدأ فعلا من خلال إصلاح الإدارة، وضع اللبنات الأولى للتعليم الوطني، وقيادة مفاوضات طويلة لاسترجاع باقي المناطق المحتلة: طرفاية سنة 1958، سيدي إفني سنة 1969، واسترجاع أقاليمه الصحراوية سنة 1975 عبر ملحمة المسيرة الخضراء التي رعاها خلفه الملك الحسن الثاني.
وتأتي الذكرى السبعون اليوم لتعيد إلى الواجهة تلك اللحظة المفصلية التي وضع فيها محمد الخامس الأسس الأولى لمغرب مستقل، قائم على الشرعية التاريخية ووحدة الشعب والعرش. كما تشكل مناسبة للتأمل في المسار الذي قطعه المغرب منذ الاستقلال: تحديث البنى الاقتصادية، توسيع مؤسسات الدولة، وإطلاق المشاريع التنموية الكبرى التي توّجها في العقود الأخيرة نموذج تنموي جديد بقيادة الملك محمد السادس، امتدادًا لنهج التحديث الذي بدأه محمد الخامس.
عيد الاستقلال ليس مجرد تاريخ في الذاكرة الوطنية؛ إنه شهادة على قدرة المغرب عبر ملوكه وشعبه على تحويل التحديات إلى فرص، والصراع من أجل الحرية إلى مشروع لبناء دولة قوية بخصوصيتها التاريخية وهويتها الراسخة. وبعد سبعين عامًا، يظل الاستقلال درسًا للتاريخ ورسالة للأجيال القادمة بأن السيادة تُصان بالتلاحم، وتُبنى بالعمل، وتُحمى بالوعي الوطني العميق.




