بقلم : عبد الله الدويب
يعتصرني الألم وأنا أسمع وأقرأ عن مختلف التجاذبات السياسوية ، التي ليست الأولى من نوعها ، بين أعضاء مجلس مدينة صفرو ، بحثا عن أغلبية هشة ، على إثر استقالة الرئيس ، هذه الاستقالة التي لازال الغموض يلفها مع توالي الأيام . ولا يهم من سيكون في الأغلبية أو في المعارضة ، بل الأهم ، فوق هذا وذاك ، ما أنتجته الاختلافات السياسوية المزمنة ، من تردٍّ للوضع في هذه الحاضرة العريقة . مدينة صفرو الفيحاء العامرة الضاربة في القدم ، مهد أجدادي السراغنة ، ملتقى الحضارات الراقية المتجدرة ، والديانات السماوية ، ومهد الثقافة والتاريخ والمجد التليد ، طالها النسيان… نخرها الإهمال . تغمرني الحسرة وأنا أذكر أمجادها ، وأتساءل : هل يستطيع الزمن الرديء أن يمحو كنزا حضاريا وثقافيا من حجم مدينة صفرو التي تنبض جنباتها بعبق تاريخ مجيد . فهل يعرف هؤلاء الشباب المنتخبون أن هذه الحاضرة تقبع على سفوح جبال الأطلس المتوسط ، منذ ما يربو عن ثلاثة عشر قرنا من الزمن ، على الطريق التجارية للقوافل التي كانت تربط ، قديما ، شمال المغرب بإفريقيا السوداء ، عبرَ بوابة الصحراء ، مدينة سجلماسة الأسطورية التي غطت الرمالُ ، اليومَ ، كلَّ معالمِها وآثارِها ؟ ورغم أن مدينة صفرو ظلت منسيةً ، عبر الزمن ، إلا أن تاريخها الحضاري والمجتمعي والثقافي بقي صامدا ، يتحدى شامخا كل عوامل طَمسِه ونسيانه . وتبقى صفرو اليوم ، خزَّانا زاخراً للقيم الإنسانية الرفيعة ، ونموذجا لمُلتقى الثقافات المتنوعة ، وللتعايش المجتمعي ، سواء بين المِلَلِ والأديان ، أو بين الفصائل الإتنِية المتشعبة للمجتمع المغربي . صفرو تكلمت أمازيغية وتكلمت عربية وعبرية . وبمجيء الحماية الفرنسية تكلمت فرنسية أيضا .
“صفرو ، جنة فوق الارض”. هكذا قالت عنها ، عند زيارتها سنة 1920 ، الكاتبة الفرنسية الشهيرة سيدوني غابرييل كوليت (Sidonie Gabrielle Colette) . ثم أُطلِق على المدينة لقب “القدس الصغيرة “، لِما عُرفتْ به من قيم التسامح والتعايش بين الأديان .
لهفي على الزمن الجميل ، يوم كانت أحياء مدينة صفرو ذاتَ نكهة عائلية تضامنية ، يوم كان كل الناس يعرف بعضهم البعض ، ويتبادلون التحية والسلام صباح مساء ، في أحياء ستي مسعودة ، باب المقام ، حبونة ، ناس أعدلون ، درب الميتر ، القلعة ، الملاح.. من منا لا يحب مسبحها البلدي التاريخي العتيق ، والممرات المُورِدةَ المحيطةَ به ؟ من منا لا يتذكر روائح النعناع ، المنبعثة من كؤوس الشاي ذات الصنع التقليدي ، والشكل الهندسي المحدودب ، في مقاهي الألعاب الورقية ، التي تتخلل الأحياء العتيقة الصاخبة ؟ أحب الأبواب العتيقة العملاقة، والأسوار السميكة التي تحيط بالمدينة وتحكي تاريخَها . لا زالت بعض تجمُّعات الصناعات التقليدية تقاوم الزمن… من حدادة ونجارة وخياطة وصناعة الأدوات الفلاحية… قد تُفَاجَأُ وأنتَ تتجول بين أسواق المتلاشيات يوم الخميس ، موعد السوق الأسبوعي ، باكتشاف نفائس من مخلفات تاريخ المنطقة ، ذات القيمة الثقافية والحضارية المهمة . غمرتني الحسرة ، عندما علمت بهدم مقهى باب المقام الشهير ضمن عملية إعادة تأهيل ساحة باب المقام ، هذا المقهى الجميل المُخْضَرِّ الجنبات ، الذي طالما ارتدتُه بشغفٍ ، خلال الستينات والسبعينات بصحبة أصدقائي من شباب المدينة . لم يبق من هذه المَعْلمةِ التي عايشتْ أجيالا عديدة ، إلا بعض الصور التي لازال بعض الأصدقاء يتداولونها على الفضاءاتِ الزرقاء .
في مدينة صفرو أحب أن أُصْغِيَ لِصَرير اللقالق ، وقت الظهيرة ، وهي ترفع لَقْلَقَتَها من أعشاشها ، على قِمَم صوامع المساجد ، في مصاحبة جميلة لآذان صلاة الظهر والعصر .
وتنفرد مدينة صفرو بكونها مهدا لثقافة المقاومة من أجل استقلال الوطن ، فكان أن سكنها رجال من أعتى رجالات المقاومة، يشهد تاريخ المدينة أنهم ساهموا بوطنية ناذرة في تحرير بلدنا المغرب . ثم إن النخبة المثقفة العريضة للمدينة لا تقل وطنية، إذ ساهمت كذلك، بالتزام متميز ، في خدمة بلدنا غداة استقلاله .
أحب مدينة صفرو لهدوئها، كما لضجيجها….لصخب مُتسَكِّعيها… لرائحة الخبز المَطْهُو على نار الحطب في الأفران التقليدية القديمة… لِمَجاذيبها الذين ملأوا الدنيا صخبا ، وحظوا باحترام كل أُسَرِ المدينة، فتبوأوا بذلك مكانة الأشخاص العموميين . ولم يكن مولاي لحسن ماماس ، رحمه الله ، إلا رمزا من رموزهم .
تحتفل مدينة صفرو بشيخ المهرجانات ، مهرجان الكرز ، منذ العام ألف وتسعمائة وعشرين . ومنذ عام ألفين واثني عشر سجلته اليونيسكو ضمن التراث الثقافي العالمي اللامادي .
شلال مدينة صفرو يفوح بعبق تاريخها…يحكي ، عبر انسياب مياهه ، كل أمجادها التليدة … عايش كل الأحداث ، المؤلم منها والمفرح . شهد مُقامَ المولى إدريس الثاني بمدينة صفرو قبل بناء مدينة فاس ، وشهد بعد قرون من ذلك كارثة فيضانات وادي أكَّاي المؤلمة في السادس والعشرين من شتنبر عام ألف وتسعمائة وخمسين ، هذه الفيضانات المرعبة التي خلفت العديد من القتلى والكثير من الخسائر .
أحب مدينة صفرو ، مهد أجدادي . ولعل ضريح الولي الصالح سيدي علي بوسرغين ، جد كل الشرفاء السراغنة ، أوْثَقُ شاهد على ذلك .
ولطالما ركضتُ لسنوات بين أزقة المدينة الضيقة ، ولاحقتُ الطيور بين عرصاتها، بصحبة أقراني من الأطفال المسلمين واليهود .
فرجاءً أيتها المنتخبات ،أيها المنتخبون ، رأفةً بمدينة صفرو ، مهد أجدادي !