العالم

أمة اقرأ لا تقرأ

بانقداح الشيخ عبد اللطيف بوعلام

الصفريوي.لقد طبعت في رمضان المبارك عددا قليلا من نُسَخ كتابي الذي يُعنى بالسيرة النبوية المطهرة لخير البرية بأسلوب ونهج يتماشى مع مواكبة العصر الحديث وموجات الكوتشينج والتنمية الذاتية ردا على من اعتلوا المنابر الإعلامية من المؤثرين والمؤثرات بمختلف مشاربهم ناصحين الناس باتباع تعليماتهم إلى درجة مناداتهم الصريحة بإلغاء مصدريِ التشريع ( الكتاب والسنة متهمينهما بأنهما السببان في تخلُّفنا عن الركب ومواكبة العصر، وهم _ مع الأسف _ من بني جِلدتنا متبجحين باقتفاء أثرهم لتحقيق التوازن والسعادة الأبدية حتى ليَخالُهم الغِرُّ أنبياء ومرسلين متناسين المبعوث رحمة للعالمين الذي ما ترك شاذة ولا فاذة نافعة إلا وبيَّنها للناس أجمعين متوسلا وضارعا إلى ربه في رفع الحرج عنهم وتيسير أمورهم في الدنيا والآخرة يؤكد ذلك قوله عز وجل: * وَمَا أرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً للْعَالَمِين *، وشهد له العالم بأسره معترفا بأنه أفضل وأعظم نِعمة أنعم الله بها على أهل الأرض لاستقرار أحوالها هو بَعْثُ وإرسال محمد ﷺ كافة للناس أجمعين، وهو على قائمة الشخصيات كلهم من بدء الخليقة. اقرأ _ إن شئت _ كتاب: “المائة الأوائل”، ويقصد بترتيبهم إبراز المؤثرين في العالم منذ القِدم للدكتور مايكل هارت الذي وضع نبينا صلى الله عليه وسلم على رأس القائمة كقائد ديني وسياسي مُحنّك عرفه التاريخ، ولكننا _ مع الحسرة الشديدة _ لا نقرأ بدليل أنني كلما عرَضت منتوجي: ” تأملات في الكوتشينج النبوي ” على المثقفين امتعض جُلّهم معترضا عليه: ” تالله إنك في ضلالك القديم ” مَا بْقَى حَدْ يَقْرَا، طَفْرُوهْ بَعْدَ هَاذُوكْ لِّي قْرَاوْ..، وإن غالبه الحياء يقول لك: ” سآخذ منك الكتاب وهم قِلة، ولكن ليس لدي الوقت لتصفُّحه، والأولاد؟ كل واحد في واد منشغل بدراسته الطبية والهندسية والماركوتينجية.. أو هوايته الكروية والموسيقية..، ولقد صدقوا فالكِتاب سُجِّيَ من زمان الزاموني.. حتى قال أحد الأنجاس الأرجاس توصيفا لهذه الحالة المتردية متهكما: ” المسلمون لا يقرؤون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يهضمون، وإذا هضِموا، فلغيرهم يحطِبون “…، فغاظتني تلكم الأجوبة التيئيسية مذكرا نفسي وغيري بهذه التوجيهات الربانية المُفتَتَحة بأول خطاب سيتلقاه قائدنا الكريم من الرب العظيم _ بغار حِراء الذي كان يتحنث فيه مُجيلا نظره في خالق الكون، ومستغربا من أن تكون الأصنام آلهة، وهي عاجزة عن حماية نفسها من أضعف مخلوق، وهو مخاطبته من قِبل ربه، وللبشر قاطبة تمثُّلا به: ” اِقْرَأْ ” ماثلا وصادحا في قوله تعالى بسورة العلق: ﴿ اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ﴾إذاً؛ فالقراءة هي أول أمْرٍ رباني نزل على سيدنا محمد ﷺ، لأنها بحق مفتاح العلم ونور العقل، إذ بواسطتها يفهم ويتعلم، ويتطور، وكل كلمة يستوعب مضامينها هي خطوة لمستقبل أفضل، وكل كتاب نفتحه لابد وأن تجد فيه ما ينفع حتى لو كان في الاتجاه السلبي، فبني آدم مُكرَّمون عند الله على كثير من الخَلق بماذا؟ طبعا بالعلم، ووسيلته التي لم يُستغْنَ عنها لحد الآن رغم تهجُّم غول الذكاء الاصطناعي هي المعادة في قوله: * اقرأ وربك الأكرم ” الذي علم بالقلم” * لتسجيل وتوارث العلم بين الأجيال. وبالقراءة والتحصيل ‏« يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ». إذاً، فالقراءة قِيمَة سامية ومفتاح للتقدم والرِّفعة، وتتجلى هذه الرفعة الربانية في الرفع من قدْر العلماء بتميُّزهم عن غيرهم من الجهال في قوله تعالى: « قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ »، ولقد حثنا سبحانه وتعالى على طلب العلم بشكل مداوم ومستمر: « وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً » ( ويتهكم البعض ساخرا عندما تتلو عليه هذه الآية يقول لك: ” آشْمَن عِلْما، وقل رب زدني فِرْمَا (أي: فدان كبير مملوء بشتى الخيرات ) إشارة منه سبحانه وتعالى إلى أنَّ العلم هو الوسيلة الوحيدة للتفوق والنجاح‏وامتلاك القوة المعرفية لاختراق أسرار الكون: « يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا ۚ لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ »، والمقصود بالسلطان هنا هو العلم الذي يمكِّن الإنسان من اكتشاف خفايا السموات والأرض.وبالرغم من أن ‏القراءة الجادة هي مفتاح لكل باب في الحياة، إذ بها نسمو ونحقق الأهداف والغايات التي خلقنا الله لنصل إليها من عِمارة الأرض وإقامة العدل للحفاظ على توازنها زرعا للخير في كل جنباتها، فإن المسلمين جلهم حافظون لسورة العلق المفتَتَحة بمفردة: ” اقرأ ” لا يقرؤون شيئا حتى المصحف مأدبة الله لا يتعهدونه باهتمام إلا في رمضان شهر القرآن حيث تتحرك الأنامل في تقليب صفحاته الورقية والإلكترونية في موبايلاتهم المشغولة على طول في سِفْساف الأمور: ﴿وَقالَ الرَّسولُ يا رَبِّ إِنَّ قَومِي اتَّخَذوا هذَا القُرآنَ مَهجورًا﴾ أي: وقال الرسول شاكيًا ما صنع قومه: يا ربِّ إن قومي تركوا هذا القرآن وهجروه، متمادين في إعراضهم عنه وتَرْكِ تدبُّره والعمل به وتبليغه. ورغم أن الآية جملة إنشائية خبرية، فتحمل في طياتها دعاء بالويل والثبور وتخويف العظيم لمن هجر القرآن فلم يقرأه ويعمل به… أُمَّة لا تقرأ أمة ميتة، وروحها الذي تنهض به وتحيى هو القرآن الكريم كما هو واضح في سورة الشورى: * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *، ولو فَعَّلنا كلام رب العالمين لتغير حالنا وحال العالم هُداة مهديين لنشر الخير والسلام ونصرة المظلومين… آه.نكتفي بهذا القدر سائلين الله عز وجل أن يهدينا إلى جادة الصواب ويمنحنا العلم النافع الذي يرفعنا درجات عنده في الدنيا والآخرة، وأن يوفقنا في سعينا لتحقيق الخير في حياتنا، وما ذلك علينا ببعيد…

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قد يُعتبر إصدار كتاب جديد للجمهور مرة أخرى مسعىً مشرفًا،
    لكنني أخشى أنه لن يحتوي على أي شيء جديد جوهري،
    بل سيحاول فقط إعادة تسخين الشاي البارد الذي قُدِّم بالفعل في حياة أشرف الشرفاء النبي ﷺ.

    ما أريد أن أقوله هو أننا ربما نتعامل مع التحذير رقم 1002،
    وهي من النوع الذي لم يعد بإمكان أحد اليوم أن يستلهم منه.
    كان هارون الرشيد سيأمر بقطع رأس كاتب كهذا فورًا.

    حتى لو كان لهذا الكتاب أهمية بطريقة ما،
    فهناك دائمًا خطر أن يكون مجرد تموج صغير آخر
    على النهر الجارف لفيض المعلومات الإعلامية لدينا—
    ينتفخ به عقلنا، ثم يختفي بسرعة،
    مثل أي كتابة كُتبت بالماء،
    ما لم تجد روحًا متفهمةً ومتقبلةً لها.

    إن النداء “اقرأوا، عليكم أن تقرأوا” محكوم عليه بالفشل.
    وفي المسيحية، يُقال: “من له أذنان فليسمع ما يقوله الروح للكنائس!”

    ولكن هل لا نزال نملك الأذن الروحية لسماع الكلمة اليوم؟
    والعين الروحية لإدراك الحقيقة؟
    إن العثور اليوم على العين الروحية لمثل هذه الكتابات
    يشبه البحث عن إبرة في كومة قش.

    لقد تمكن الخلفاء العلماء للنبي ﷺ،
    كما هو الحال في كل دين عبر التاريخ،
    من خلال 1400 سنة، من زرع الرؤية الأصلية
    بأدغال كثيفة من التفسيرات والشروحات،
    إلى درجة لم يعد بإمكان أي إنسان أن يستخلص منها أي فائدة روحية.
    لقد فُقدت القدرة على رؤية الصورة الكاملة.
    لم يعد أحد اليوم قادرًا على رؤية الغابة من كثرة الأشجار…
    ما لم يُمنح الفرصة للتحرر من السرديات القديمة.

    ولكي ندرك هذه الكلية،
    فإننا لا نحتاج إلى مزيد من الكلمات التحذيرية،
    بل إلى صمت العقل
    وطريقة للتحرر من مستنقع السيل اليومي اللزج
    من كلمات الدنيا والدين—
    من ثرثرة الأخطبوط الإعلامي،
    وكذلك من خطب رجال الدين شبه الأموات.
    كان الهندوس يسمونهم “البنديت”—
    علماء يتكلمون كثيرًا لكنهم يعرفون القليل أو لا شيء.

    علاوة على ذلك، وصلت الروحانية اليوم في أجزاء من العالم الإسلامي
    إلى النقطة نفسها التي وصلت إليها الكنيسة الكاثوليكية
    في أواخر العصور الوسطى وبداية عصر النهضة:
    لقد أفسدتها السلطة الدنيوية.
    أو لنقل، إنها تحاول أن تحشر الناس
    في “السيدة الحديدية” لدينهم—
    مع أن الإسلام، في أرقى صوره، هو دين الحرية من الأساس.
    وهم يفعلون ذلك، من بين أسباب أخرى،
    بسبب العمى الروحي،
    أو كما هو الحال في إيران، للحفاظ على ثرواتهم الدنيوية.

    فمن ذا الذي سيتعجب عندما يرى الشباب اليوم
    يتجهون إلى آمال أخرى،
    وقد أدركوا أنه لم يعد هناك شيء يُرتجى من دين استُنفِد بالكامل؟

    إن ما نحتاج إليه هو:
    إعادة الذوق (الذوق) للعقل تجاه الأرض،
    وتوجيهه نحو تجربة العلاقات العميقة
    لحياتنا وعالمنا.
    هناك إمكانيات وأدوات لذلك،
    لكنني لا أعتقد أن الكتاب واحدٌ منها.

    ليس فقط لأن الكلمات نفسها قد تكون غير كافية،
    ولكن أيضًا لأن الإنسان، في هذا العالم المشبع بالمعلومات البصرية،
    ربما فقد القدرة على أن تأسره الكلمات—
    كما كان يحدث مع مستمعي الحكواتيين قديمًا،
    أولئك الرواة الذين كانوا قادرين على استحضار الصور في نفوس مستمعيهم،
    وسحبهم، ولو للحظات، إلى العالم غير المرئي لأرواحهم.

    ولنُسقط هذا على “موضوعنا”—
    أن نقود القارئ نحو تجربة
    تُمكّنه من تذوّق، وشمّ، ولمس
    الأساس الذي نما عليه الإنسان.

    أتمنى لجميع إخوتي وأخواتي في صفرو عيد مبارك سعيد،
    وإن كان لا يزال هناك بعض الأرواح الصامدة
    التي تعرف الروح القديمة لهذا المكان،
    فإليكم بالأخص—
    ليحفظكم الله ويحميكم وسط تيارات زماننا العاتية.

    أنا متأكد—
    سنلتقي مجددًا في يوم مشمس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا