
في قصة تبدو وكأنها مستوحاة من عالم الخيال، خرج وزير الاتصال الجزائري، محمد مزيان، ليعلن، بكل جدية ووقار، عن اكتشافه لما وصفه بمخطط إعلامي دولي يهدف إلى تشويه صورة الجزائر. وخلال مؤتمر صحفي احتضنته جامعة الجزائر 3، صرّح الوزير بأن هناك “9000 صحفي حول العالم يعملون على الإساءة للجزائر”، وهو رقم أطلقه بثقة مدهشة، دون أي توضيح حول مصدره أو كيفية احتسابه.
هذا الإعلان، الذي جاء وكأنه مقتبس من سيناريو فيلم تجسس من الدرجة الثانية، أثار موجة من السخرية والاستغراب، حيث تساءل كثيرون: كيف توصل الوزير إلى هذا الرقم بالتحديد؟ ومن هم هؤلاء الصحفيون؟ وهل ينتمون إلى منظمة سرية تعمل في الخفاء ضد الجزائر؟
الجنون بالأرقام: هواية رسمية؟
لم يكن تصريح وزير الاتصال الجزائري إلا حلقة جديدة في سلسلة طويلة من التصريحات الغريبة التي دأب المسؤولون الجزائريون على إطلاقها في السنوات الأخيرة، والتي تتسم بالمبالغة الفاحشة، والتناقض الصارخ، والابتعاد عن الواقع الاقتصادي والسياسي للبلاد.
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الذي فاز بولاية رئاسية ثانية بنسبة “94.65%” من الأصوات (رغم أن نسبة المشاركة بالكاد وصلت إلى 22%)، أعلن، في وقت سابق، أن اقتصاد الجزائر “ثالث أقوى اقتصاد في العالم”، دون تقديم أي دلائل تدعم هذا الادعاء الذي يناقض جميع التقارير الاقتصادية الدولية.
وفي مشهد آخر من هذه المسرحية الرقمية، صرّح تبون بأن “السلطات الجزائرية صادرت 36 مليار دولار من أموال الفساد في منزل واحد”، وهو رقم يعادل ضعف ميزانية الدولة التونسية لعام كامل! أما في الأمم المتحدة، فقد أذهل الرئيس العالم بتأكيده أن الجزائر ستنتج “1.3 مليار متر مكعب من المياه المحلاة بحلول نهاية 2024”، وهو ما يعادل 11 ضعف الإنتاج العالمي للمياه المحلاة، أو 3 أضعاف حجم البحر الميت!
ولم يكن وزير الاتصال الوحيد الذي أدلى بتصريحات خرافية، فقد أعلن وزير السياحة الجزائري أن بلاده استقبلت “300 مليون و300 ألف سائح في عام واحد”، متجاوزًا بذلك فرنسا، التي تُعد أكبر وجهة سياحية عالمية بـ100 مليون زائر في 2024.
أما وزير التعليم، فقد أثار جدلاً واسعًا حين صرّح بأن “عدد الطلاب في الجامعات الجزائرية يبلغ 116.8 مليون طالب”، وهو رقم يتجاوز عدد سكان البلاد بثلاثة أضعاف!
هل نحن أمام “مؤامرة كونية”؟
بالعودة إلى نظرية الوزير محمد مزيان حول وجود 9000 صحفي متآمر، فإن الأسئلة تتكاثر، من أين أتى هذا الرقم؟ وهل هناك قائمة سرية بهؤلاء الصحفيين؟ هل لديهم منظمة موحدة؟ أم أنهم يعملون بشكل منفصل؟ هل يجتمعون سريًا في قبو مظلم ليخططوا لحملاتهم الإعلامية ضد الجزائر؟ هل لديهم بطاقات اشتراك في “شبكة الصحفيين المتآمرين” تمنحهم امتيازات خاصة؟.
في الواقع، لا حاجة إلى “مؤامرة إعلامية” لتشويه صورة الجزائر، فالأرقام الوهمية التي يطلقها مسؤولو البلاد تكفي وحدها لرسم صورة مضحكة عن النظام. وبينما يتحدث المسؤولون عن “مخططات إعلامية مغرضة”، يظل الشعب الجزائري يعاني من أزمات اقتصادية حقيقية، وفساد متجذر، وبنية تحتية متدهورة، دون أن يحتاج إلى تدخل “9000 صحفي” لتشويه الواقع.
في الجزائر، يبدو أن الأرقام لم تعد مجرد بيانات، بل أصبحت أداة للتلاعب والخداع السياسي، حيث يتم استغلالها في سباق محموم لاستعراض “إنجازات وهمية” و”مؤامرات خيالية”. وفي ظل هذا الهوس بالأرقام، تظل الحقائق الموضوعية غائبة، والواقع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد يتحدث ببلاغة تفوق كل تصريح رسمي.