المغرب

أسس الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية والمجالية المندمجة بإقليم صفرو: نحو مقاربة مستدامة لتحديات بيئية واقتصادية

نظريا يشكل الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية والمجالية بالمغرب محطة تحول في مسار التخطيط الترابي، باعتباره نتاجا لتراكم السياسات العمومية والإصلاحات المؤسساتية الهادفة إلى تعزيز الحكامة والرفع من نجاعة التدبير وربط تدخلات الدولة وحاجيات المجالات المحلية برؤية استراتيجية شمولية ، ويأتي هذا التوجه في إطار سعي المملكة المغربية إلى جعل التخطيط الترابي منسجما بين مستويات الجهة والإقليم والجماعة، ومتكاملا مع البرامج القطاعية اللاممركزة، بما يحقق التنسيق بين التوجيهات المركزية وخصوصيات كل مجال.
وفي هذا السياق يبرز إقليم صفرو كأحد المجالات التي تحتاج إلى رؤية تجديدية للتنمية المندمجة، بالنظر إلى تعدد خصوصياته البيئية والطبيعية والبشرية ، وما يواجهه من تحديات متفاقمة مرتبطة أساسا بالتغيرات المناخية وتناقص الموارد الحيوية وعلى رأسها الماء ، فقد أصبح تبني مقاربة شمولية في التنمية خيارا لا محيد عنه ، بالنظر إلى محدودية المقاربات التقليدية التي ركزت لفترة طويلة على البعد الاقتصادي بمعزل عن الاعتبارات البيئية والاجتماعية ، ويقتضي هذا التحول اعتماد منهج يقوم على الربط بين الرأسمال البشري والبيئي والاقتصادي، وتعزيز التنسيق المؤسسي، وتوسيع دائرة المشاركة لتشمل الساكنة ومختلف الفاعلين المحليين، بما يجعل من الفعل التنموي مسارا مشتركا يقوم على التشخيص العلمي الدقيق والتخطيط الواقعي والتدبير القائم على النتائج.
وتعد إشكالية الماء في إقليم صفرو مثالا واضحا على حجم التحديات التي تواجه التنمية، حيث يشهد الإقليم تراجعا لافتا في الموارد المائية الجوفية والسطحية، إلى جانب اضطرابات متزايدة في التزود بالماء الصالح للشرب خاصة في العالم القروي ، وارتفاعا في الطلب على مياه السقي بفعل توالي سنوات الجفاف ، وتزداد الوضعية تعقيدا بسبب الظواهر المناخية المتطرفة التي باتت تسجل بشكل متكرر، من جفاف شديد وممتد زمنيا ، إلى تساقطات مطرية عاصفية تتسبب في فيضانات وانجرافات، ما يفرض ضرورة تطوير آليات التوقع والوقاية والتدخل، وإعادة تحيين خرائط المخاطر، وتأهيل البنيات التحتية لتصبح قادرة على استيعاب التقلبات المناخية.
ولا تقتصر التحديات البيئية على الماء، بل تشمل أيضا الأنشطة ذات الأثر السلبي على الموارد الطبيعية، من مقالع وكوشات الجير ومعاصر الزيتون والمطارح الغير مراقبة للنفايات والآبار ذات الاستعمال الفلاحي ، إضافة إلى تأثير المياه العادمة غير المعالجة والانبعاثات الناتجة عن النقل والأنشطة الصناعية ، وهو ما يستدعي تعزيز مراقبة الانشطة الانتاجية الملوثة ، وتسريع إنجاز محطات معالجة المياه العادمة ومنع استعمال هذه المياه الغير معالجة في الانشطة الفلاحية ، وإحداث مطارح مراقبة للنفايات بمعايير بيئية، وتشجيع التحول نحو الطاقات المتجددة ولاسيما الطاقة الشمسية في الإدارات والمرافق والخدمات والأنشطة الاقتصادية، إلى جانب اعتماد سياسة توسيع المجال الغابوي وإنشاء أحزمة خضراء حول المراكز الحضرية، وضبط استعمال المبيدات الفلاحية لما تشكله من تهديد للتنوع البيولوجي وجودة التربة والمياه.
ويمثل تعزيز الرأسمال البشري أحد الأعمدة الأساسية لهذا الجيل من البرامج التنموية، باعتبار الإنسان المحرك الرئيسي للتغيير، ويتطلب ذلك توفير تكوينات وفرص شغل للشباب، وربط التعليم بحاجيات سوق الشغل ودعم النساء خصوصا بالمناطق القروية، ومحاربة الهشاشة، وترسيخ ثقافة المشاركة والشفافية ، كما يشكل الاستثمار في الرأسمال الطبيعي رافعة للتنمية المستدامة من خلال تثمين المؤهلات المجالية ، وتطوير السياحة الإيكولوجية، وتشجيع المنتوجات المحلية، واعتماد نماذج فلاحية مقتصدة للماء عبر توجيه الدعم نحو الزراعات الاستراتيجية كالحبوب والقطاني، والحد من توسع الزراعات الأكثر استهلاكا للماء وعلى رأسها أشجار الورديات، مقابل تشجيع الأصناف المحلية من الزيتون التي تتلاءم مع المناخ الجاف.
ويواجه الإقليم تحديات هيكلية تتطلب معالجة عميقة، منها محدودية البنية الطرقية خاصة بالمناطق القروية، والحاجة إلى تقنين الولوج إلى مياه السقي عبر تدبير أكثر نجاعة للموارد السطحية المتاحة، وتقنين استغلال المياه الجوفية عبر الوقف المؤقت للترخيص للآبار ذات الأغراض الفلاحية وتسوية وضعية الغير مرخص منها .
كما يعاني قطاع التعليم بدوره ، الشيء الذي أدى لإنتشار الهدر المدرسي وتفاقم الامية ، بالإضافة الى غياب نواة جامعية ، أما قطاع الصحة فيعاني من نقص حاد في الموارد البشرية والتجهيزات الصحية والحاجة الملحة إلى مستشفى إقليمي بمعايير حديثة ، أما في الجانب الاقتصادي فيبرز ضعف الاستثمار وندرة فرص الشغل ، والحاجة إلى دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة وتثمين المنتوجات المحلية وإنعاش الأنشطة المتعثرة ، كما يتطلب التأهيل الحضري والقروي مقاربة تعتمد الطاقات المتجددة وتوسيع المساحات الخضراء وتأهيل الفضاءات الثقافية والرياضية والترفيهية.
إن تجاوز هذه التحديات يفرض اعتماد مقاربة استراتيجية تقوم على الالتقائية بين البرامج المركزية والجهوية والإقليمية والجماعية ، وتوحيد الجهود بين مختلف الفاعلين، وتطوير حكامة قوامها الشفافية والرقمنة والفعالية والنجاعة وحسن التدبير.
وهكذا تظل التنمية بإقليم صفرو مرهونة بتبني تصور يجعل من البيئة عنصرا مركزيا، ومن الإنسان محورا للتغيير، ومن العدالة المجالية مسارا لا يمكن تجاوزه، على أساس قراءة واقعية للتحديات المناخية والاقتصادية والاجتماعية، وإعادة ترتيب الأولويات، وتعزيز المشاركة الفعلية للساكنة والمجتمع المدني وفق مبادئ الديمقراطية التشاركية، بما يفتح الطريق أمام تحول تنموي قادر على تلبية تطلعات الحاضر وصون حقوق الأجيال القادمة.

عبد الحق غاندي رئيس :
” الإئتلاف المحلي من أجل البيئة والتنمية المستدامة بصفرو”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى