نجيب أتريد اليازغي يكتب : الصدق المدمر

إنه ابن الأرض، فلاح ابن فلاح، يعشق رائحة التراب حتى النخاع، كما أنه يقتفي أثر رائحة صوف الأغنام في كل الإصطبلات. لقد فارقته شابا يافعا، أنيقا مهذبا، مثقفا وحاصلا على شهادة عليا. لكنني وبعد سنين، التقيته شيخا هرما، ممزق الثياب خشنا، يبدو عليه أثر الدهر جليا مع أنه مايزال في الخمسينات من عمره. لما وقعت عيناه في عيني، أحسست بأنه منزعج لرؤيتي. كان باردا في كل شيء، في كلامه، في عناقه ، وفي لهفته علي، لم أحس بنفس الحرارة التي كنت أحس بها من قبل. شعرت بأنه لم يكن يريد رؤية أو سماع أي شيء يذكره بالماضي.
كان قد حصل على شهادته الجامعية في وقت بلغت فيه البطالة أوجها في صفوف الشباب حاملي الشهادات. بقي في البلدة يساعد أباه في شغل الفلاحة، لكن هذا الأخير أصر عليه بأن ينزل إلى المدينة للبحث عن أي عمل يساعده في بناء مستقبله بعيدا عن الفلاحة وهمومها. طرق طاهر جميع الأبواب، طلب مساعدة جميع معارفه، كما تقدم بطلباته لاجتياز عدد من المباريات من أجل الحصول على وظيفة كيف ما كان نوعها، لكن دون جدوى.
وفي إحدى الأيام، أتاه صديق بخبر أثلج صدره وأنساه كل هموم الدنيا:
ـ مارأيك يا طاهر بأن تعمل معنا في مكتب المهندس عمران؟
نزل الخبر بردا وسلاما على طاهر فأجاب فورا:
ـ بالطبع موافق، سيكون ذلك يوم السعد.
كان صديقه عادل يشتغل عند أحد المهندسين المعماريين المشهورين (الحركة دايرة والشغل حتى لكتاف). فلما طرح عادل الفكرة على السيد عمران وافق بدون تفكير وأعطاه الضوء الأخضر لإحضاره في أي وقت شاء.
بدأ طاهر العمل بحزم وعزم، ومع مرور الأيام شرب المهنة وأصبح عنصرا هاما لا استغناء عنه. كان صادقا مع زملائه كل الصدق ومتفان في عمله كل التفاني لا يعرف الغش والتدليس. لم يكن الأجر الذي يتقاضاه أول كل شهر كافيا، لكنه كان خيرا وبركة. يكفي أنه حارب البطالة وبين للناس بأن لديه وظيفة؛ كان أمله في المستقبل كبيرا،فإذا كانت الأمور مستعصية في الحاضر، فبدون شك أنها ستتحسن في الآتي من الأيام.
وهو في مكتبه ذات صباح يتصفح البريد، عثر السيد عمران على استدعاء للحضور إلى جلسة بالمحكمة. كان السيد عبد الله، وهو صاحب البيت الذي يشتغل به المهندس، قد رفع عليه دعوى بخصوص تغييرات أجراها هذا الأخير بالمنزل دون إذن منه. ولما جاء ليكلمه في الأمر ويحلا المشكل بالود، انفعل السيد عمران ونزل في الرجل شتما وسبابا، ولم يترك للتفاهم الودي مجالا. كان ذلك على مرأى ومسمع من كل الموظفين. وأمام القاضي، الكل شهد لصالح المهندس إلا طاهر، كانت شهادته مختلفة تماما عن شهادة زملائه. ما قاله كان مفاجأة صادمة للجميع، ففي مثل هذه المواقف يتبين المعدن الأصيل من المزيف. صرح بالحقيقة كما هي دون أن يبالي بالعواقب.
كان غضب السيد عمران شديدا بحيث طرد طاهرا أشد طردة، ورمى به إلى الشارع دون شفقة أو رحمة. أحس المسكين بدوار في رأسه، فتعثرت خطواته ثم سقط على الأرض مثل شجرة اقتلعها الإعصار من جذورها فهوت على الأرض بكل ثقلها. في تلك اللحظة غمره إحساس بأن سوء الطالع يتعقبه؛ فقرر ترك كل شيء وراءه في مدينة زادها التحضر ـ الذي من المفروض يرقى بحياة الإنسان ويصبغ عليها قيما إنسانية أجمل وأنبل ـ شرورا فوق شرور، ثم عاد من حيث أتى. فهناك على الأقل البادية والطبيعة والحيوانات التي تحمل في ثناياها بذور الإخلاص والوفاء أكثر من البشر.