المغرب

من الإدانة إلى البراءة: مسار قضائي معقّد يعيد طرح سؤال اليقين في ملفات الرشوة

انتهت واحدة من القضايا التي أثارت اهتماماً واسعاً داخل الأوساط القضائية بحكم مغاير تماماً لما استقر عليه في مراحلها السابقة، بعدما قررت الغرفة الجنائية بمحكمة الاستئناف بفاس تبرئة قاضٍ من الدار البيضاء من تهم ثقيلة مرتبطة بالتلاعب في ملفات قضائية والارتشاء، عقب إعادة محاكمته بناءً على قرار صادر عن محكمة النقض.

القضية، التي مرت بمسار طويل ومتقلب، كانت قد أسفرت في بداياتها عن إدانة ابتدائية واستئنافية من طرف القضاء بالرباط، حيث صدر في حق المعني بالأمر حكم بالحبس النافذ لمدة سنة واحدة، إلى جانب غرامة مالية. غير أن هذا الحكم لم يكن نهاية المطاف، إذ لجأ الدفاع إلى أعلى هيئة قضائية للطعن، معتبراً أن الملف شابته اختلالات تمس جوهر المحاكمة العادلة.

وخلال مرحلة النقض، تم التركيز على طبيعة وسائل الإثبات المعتمدة، حيث اعتُبر أن الإدانة بُنيت أساساً على تصريحات وقرائن لم تُدعّم بأدلة مادية حاسمة، من قبيل تسجيلات أو معاينات مباشرة تثبت واقعة طلب أو تسلم مبالغ مالية. هذا المعطى كان كافياً، في نظر محكمة النقض، لاعتبار أن القناعة القضائية لم تُؤسَّس على درجة اليقين المطلوبة في القضايا الجنائية، ما استدعى نقض القرار وإعادة الملف إلى محكمة أخرى للبث فيه من جديد.

وأمام محكمة الاستئناف بفاس، أُعيد فتح الملف من زاوية قانونية مغايرة، مع إخضاع الوقائع والقرائن لتمحيص دقيق، انتهى إلى عدم كفايتها لإثبات التهم المنسوبة. وخلصت المحكمة، في قرارها النهائي، إلى التصريح ببراءة القاضي، مع ترتيب الآثار القانونية المترتبة عن ذلك.

هذا التحول الجذري في مآل القضية يسلط الضوء على إشكالية عميقة تتجاوز شخص المتابع، وتتعلق بطبيعة الإثبات في جرائم الفساد، خاصة حين يكون المتهم من داخل الجهاز القضائي نفسه. فبين مطلب الصرامة في مواجهة الرشوة وحماية نزاهة القضاء، وضرورة احترام قرينة البراءة وعدم الإدانة إلا بناءً على حجج قاطعة، يظل التوازن دقيقاً ومعقداً.

ويرى متابعون أن هذا الحكم سيعيد إلى الواجهة نقاشاً قانونياً حساساً حول حدود الاعتماد على الشهادات والقرائن، ودور القاضي في بناء قناعته الجنائية، كما سيغذي الجدل الدائر حول كيفية معالجة ملفات الفساد دون السقوط في منطق الشبهة الدائمة أو الإدانة المبنية على الاحتمال.

في المحصلة، تعكس هذه القضية أن مسار العدالة ليس دائماً خطاً مستقيماً، بل عملية دقيقة تتطلب وقتاً وتمحيصاً، وأن حماية هيبة القضاء تمر، paradoxically، عبر التشدد في الإثبات بقدر ما تمر عبر مكافحة كل أشكال الانحراف داخله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى