ما هو رأي الدين في لحم الخيل. هل هو حلال أم حرام، وهل يجوز التداوي بلبن الحمير؟

بقلم الشيخ المقرئ عبد اللطيف بوعلام الصفريوي.
وإليكم تفصيل ذلك بشكل دقيق يتطلب قراءة متأنية لهذا المقال المطول، فمزيدا من الصبر. أما المستعجلون، فقد تبرأت منهم في مقال سابق عنوان بدايته: ” رسالة محذرة ومنذرة للمعوقين المثبطين للهمم..”، وأرجو منهم ألا يلجوا كتاباتي المقلقة لأعصابهم البتة. معذرة إن ذكرت بهذه الضميمة، وعودة إلى معالجة هذا الموضوع الشائك.
_المسألة الأولى، والتي تتعلق بأكل لحم الخيل.
للعلم فإن هذه القضية خلافية بين الفقهاء من زمان، وهي متأرجحة بين الحِلية والكراهة والحُرمة، ولكل حُجته في هذه المسألة التي تشغل بال العديد من الناس.
فالقائلون بحلالها هم الأغلبيةتفعيلا وعملا بالحديث الثابت في الصحيحين أن أسماء، قالت: * نَحَرْنَا فرَساعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه).
وقد ورد كذلك في الصحيحين أيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: * نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحُمُر ورخص (وأذن) في لحوم الخيل *.
وفي رواية عن جابر أيضا انفرد بها الإمام مسلم: * أكلنا زمن خيبر الخيل، وحمر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي *،
وفي رواية بسنن أبي داود (داود ليست بواوين في فصيح اللغة، فقد حذفوا الواو الثانية لتوالي المثلين، وتنطق بالمد، ومثلها: طاووس: طاوس.. وكذا حذف ألف: إله. سموات. لكن.. أوردت هذه الضميمة الاسترواحيةلأجل التنبيه. أما الأخطاء اللغوية والإملائية، فالعديد لا يكترث بها)، ولنعد إلى سنن أبي داود إذ أورد حديثا عن جابر أيضا أنه قال:
” نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل. (3789)، وألحِقت البغال بالنهي باعتبار أن الحمار هو أبوها في النسل تزاوجا مع الفرس الأنثى.
أما قوله عز وجل بالنحل تخصيصا لها في تسخيرها للركوب والزينة: ” وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً، وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8)”، فهذه الآية لا تدل على المنع إلا بدلالة الاقتران، وهي دلالة ضعيفة في الأصول، وكون الركوب والزينة أكثر منافعها لا ينافي حِل أكلها لأن الخيل خرجت بالنص الذي هو إِذْنُ الرسول صلى الله عليه وسلم في أكلها كما هو واضح في حديث جابر المتقدم.
أما بالنسبة للفقهاء المالكيين، فالحكم عندهم بين الكراهة والتحريم، والغالبية العظمى منهم على تأييد التحريم بإطلاقه.
قال ابن رشد في بداية المجتهد: “
وأما الخيل فذهب مالك، وأبو حنيفة وجماعة إلى أنها محرمة “.
وقال ابن عبد البر في الاستذكار: ” قال مالك وأصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي لا تؤْكل الخيل “.
قال ابن أبي زيد القيرواني في الرسالة: “وَنَهَى – عَلَيْهِ السَّلَامُ – عَنْ أَكْل كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَعَنْ أَكْل لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَدَخَلَ مَدْخَلهَا لُحُومُ الْخَيْل وَالْبِغَال لِقَوْلِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى:{ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [النحل: 8]”. قال النفراوي
قوله: (وَدَخَلَ مَدْخَلهَا) أَيْ: الْحُمُر الْأَهْلِيَّةُ بِمَعْنَى شَارَكَهَا فِي حُرْمَةِ الْأَكْل(لُحُومُ الْخَيْل وَالْبِغَال) وَبَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ” لِقَوْل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى”: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [ الآية السالفة في الذكر. تأمل معي لاحقا تفسير كل واحد منهم لهذه الآية المستشهد بها)، وَلَا يُقَالُ: إنَّ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْحَمْل وَالْعَمَل وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنّا نَقُولُ: الله نَصَّ عَلَى إبَاحَةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ “.
وقال أبو الحسن في شرح المدونة مبينا درجة التحريم: ” وأما الفرس، فإنه لا يُؤكل عندنا إلا أنه لا يبلغ به مبلَغ البغال والحمير . أما التحريم فلا خلاف فيه” إلا نزرا قليلا منهم قال بالكراهة.
قال ابن رشد في بداية المجتهد:
” وأما الخيل فذهب مالك، وأبو حنيفة وجماعة إلى أنها محرمة “.
وقال ابن عبد البر في الاستذكار: قال مالك وأصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي لا تؤكل الخيل “.
وقال خليل في المختصر: “وَالْمُحَرَّمُ النَّجَسُ، وَخِنْزِيرٌ وَبَغْلٌ وَفَرَسٌ وَحِمَارٌ وَلَوْ وَحْشِيًّا دُجِّنَ”.
قال الشارح:
أَمَّا الْخِنْزِيرُ الْبَرِّيُّ فَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ لَحْمِهِ وَشَحْمِهِ وَجِلْدِهِ وَعَصَبِهِ كُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ.وَأَمَّا الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا حَرَامٌ، وَلَوْ كَانَ الْحِمَارُ وَحْشِيًّا دُجِّنَ، وَصَارَ يُعْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ خِلَافًا لِابْنِ الْقَاسِمِ.
وفي التوضيح للشيخ خليل قال: “وظاهر الموطأ في الخيل الحُرمة؛ لأنه قال: أحسن ما سمعت في الخيل زينة، والبغال والحمير أنها لا تؤكل لقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8].
أي لأن الله تعالى ذكرها في سياق الامتنان، وذلك يوجب ذكر جميع منافعها، ولو كانت تؤكل لذكره كما ذكره في الأنعام، ولما اقتصر فيها على الركوب والزينة ففُهِمَ أن ذلك هو تمام المقصود منها.
وقال جلال أوصياد الهلالي في استنباطه بعد عرضه المفصل للأحكام المثبتة لتحريم لحم الخيل:
“فَعِلّة تحريم الحمير موجودة في الخيل والبغال، ولذلك جمع الله بينها في آية الامتنان بقوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}، فنص على ما جُعلت له، وهو الرَّكوب والزينة، ولم يذكر الأكل كما ذكره في قوله عز وجل قبل هذه الآية بسورة النحل: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا، لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5)}، فالأكل خاص بالأنعام، والإبلُ من ضمنها، وأما الخيل والبغال والحمير، فهي من الدواب وليست من الأنعام، لقوله تعالى بآل عمران: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ (14)}، ففرق بين الأنعام والخيل، فلو كان يجوز أكلها لذكره، وخرجت الإبل بنص آية الأنعام وهي قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ الله}(143)..]تنبيه: اعلم ان قول بعضهم في المذهب: إنه مكروه، المراد به كراهة تحريم، وليس الكراهة التنزيهية كما يتوهم البعض.
قال الزرقاني في شرح الموطإ: “لا تؤكل تحريما على مشهور المذهب والصحيح عن أبي حنيفة، وقول المفهم: – مذهب مالك كراهة الخيل- ضعيف، إلا أن تحمل على التحريم. انتهى كلامه “.
فإن قال أحدهم: ما الجواب على حديث أسماء وجابر، وهما حديثان
صحيحان؟
فهناك من اعتبرهم
منسوخان بحديث تحريم الحمر الأهلية في خيبر، وبعمل أهل المدينة الذي ينتمي إليها مالك رضي الله عنه،
وقد صح عنه أن عمل أهل المدينة على التحريم.
قال الجصاص الحنفي معززا هذا الحديث (يقصد حديث أسماء السالف ابتداء نحرنا فرسا على عهد رسول الله..) لا حُجة فيه للمخالف لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علِم به وأقرهم عليه، ولو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم علم به وأقرهم عليه كان محمولا على أنه كان قبل الحظر. انتهى قوله.
وقال ابن عبد البر: ” القياس عند الفقهاء أن الخيل لا تؤكل، لأنها من ذوات الحافر كالحمير “.
والكلام في هذا يطول، والخلاصة في نظري ورأيي المتواضع مبتعدا عن التعصب المذهبي أقول: فإذا نصحك الطبيب بأكله لإصابتك بفقر الدم وضعف في القوة، فكُله بقدره دون إسراف، وإن كنت صحيحا، فاجتنبه عملا بالقولين.
ثم إن أكل الخيل
ليس من الواجبات إذ لم يجبرك أحد على ذلك، ولكن لا تحرم على الناس ما أحله الله، فهذا والله هو الحمق والعمى بعينه، فحتى سيدنا يعقوب أبو الأنبياء عليه السلام. في هذا الموضع بالذات قد حرم على نفسه لمرض ألَمَّ به [يُقال إنه عِرق النسا كما هو مبثوث في بعض كتب التفسير ]، فلما طال به مُكْثُ المرض واشتدت عليه وطأته عاهد نفسه أنه لو شافاه العلي القدير سيمتنع عن الطعام والشراب الذي كان يهواه ويحبه وهو لحم الإبل وألبانها، فحرّمها رغم أن الحي القيوم لم يُحرّمها عليه، وهو المشار إليه بإسرائيل لقبا ثانيا له باعتباره جدا لليهود
جميعا.
قال عز من قائل بسورة آل عمران: ” كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93) * لكنه لم يُلزم أحدا باتباعه في هذا التحريم، والتوراة المقيدة للأحكام لم تنص عليه.
أما حكم أكل لحم الحمار، فهو محرم في الدين، ذلك أن الرسول ﷺخطب الناس وأخبرهم أن الحمر الأهلية حرام، وقال: إنها رجس، وأجمع العلماء كلهم على تحريمها. أما حمر الوحش فلا بأس بها عند بعض الفقهاء لأن التقييد يطال الحمر الأهلية التي تتربى مع الإنسان، ويقال لها الحمر الإنسية.
ولكن بعض أهل العلم كرهوا أكل لحم الخيل إذا كان لها حاجة لوقت الجهاد؛ وحيث أن الدواعي الآن قد تبدلت لتطور آليات الحروب بتقنيات يساهم فيها الذكاء الاصطناعي في هَلْك الحرث والنسل بقوة تدميرية منقطعة النظير، وصارت الخيول متجاوزة لهذه المهمة، فاستُعملت في المسابقات والمراهنات والعروض والاقتناء للركوب بأثمان خيالية، ولم يعد لها حاجة تُذكر في المقاتلة، فلا بأس من أن تذبح وتؤكل بالنسبة للمرضى إرضاء للطائفتين، ومن قال بخلاف ذلك، فهو بعيد عن الجادة والصواب.
أما التداوي بلبن الأتان( أنثى الحمار)، فهذا لا يجوز لأن التحريم انسكب على لحمه المنتج لتلك المادة بقدرة القادر، فكيف يجوز التداوي بلبنه، ومثله على سبيل القياس الخمر الذي يَنصح محتسيه ومعاقريه الناس بشرب البيرا وخاصة المستخلصة من الشعير بعد تخميره لعلاج البروستاتا وقرحة المعدة وغيرها من الأمراض، والماحيا لإذهاب السموم والهموم. ألا يعلم هؤلاء السكارى الحكماء بأن الإمام مسلم قد روى في صحيحه من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الخمر: ” إنه ليس بدواء، وإنما هو داء “، فهل نُكذب رسولنا الذي لا ينطق عن الهوى، ونصدق هؤلاء الأمناء الحشاشين؟!!
وبه وجب الإعلام والسلام.