حين يتحول الدفاع عن الفساد إلى خطاب رسمي… قراءة في عقلية “حزب الأباطرة”

مرة أخرى يخرج “حزب الأباطرة” برسائل سياسية لا تنمّ عن الوعي بحجم اللحظة، ولا عن احترام ذكاء الرأي العام، بل تكشف — بكل وضوح — أن الحزب يعيش انفصالاً تاماً عن نبض الشارع، وأن خطابه مُصمَّم لحماية الامتيازات أكثر مما هو موجه لخدمة المواطنين. الرسائل الأخيرة التي يعتبر فيها الحزب أن “كل من يدعو لمحاسبة الفاسدين فهو يتاجر بالفواجع ويصفي الحسابات”، تكشف العقلية الحقيقية التي بُني عليها هذا التنظيم: عقلية تُجرّم النقد، وتبرّر الفساد، وتتهم المجتمع بدل مساءلة المسؤولين.
إن محاولة إغلاق باب المحاسبة باسم “عدم استغلال الفواجع” ليست سوى صيغة مهذبة لقول شيء واحد: اتركوا الفساد وشأنه. فإذا دعا المواطنون إلى معرفة من يتحمل المسؤولية في فاجعة فاس، يصبحون متاجرين بآلام الناس. وإذا طالبوا بكشف حقيقة تدبير الصفقات والمشاريع، يُتهمون بتصفية الحسابات. أما إذا تحدثوا عن تجارب ماضية تُثبت تورط منتخبين ومسؤولين في اختلالات، فذلك — حسب الخطاب الرسمي للحزب — مجرد “شيطنة”.
هكذا يصبح المواطن هو المتهم، ويصبح الفساد “ضحية”، وتتحول المحاسبة إلى مؤامرة. منطق أغرب من الخيال.
الحقيقة أن “حزب الأباطرة” لا يدافع عن مؤسساته، بل عن شبكة مصالح مترابطة تمتد من الجماعات الترابية إلى المجالس الجهوية إلى البرلمان. شبكة تراكمت داخلها الثروة والنفوذ والسلطة، حتى أصبح أي حديث عن المحاسبة يُعتبر تهديداً مباشراً لهذا البناء القائم على الامتيازات. لذلك نجد الحزب سريعاً في الهجوم على كل صوت ينتقد، وسريعاً في إغلاق النقاش العام، وسريعاً في استعمال خطاب المظلومية السياسية لإخفاء مسؤوليات واضحة.
المؤلم في خطاب الحزب أنه يتجاهل أن المحاسبة ليست ترفاً، بل واجباً دستورياً وأخلاقياً. وأن حماية المال العام ليست حملة انتخابية، بل جزء من صلب العمل السياسي النبيل. وأن الفواجع لا تُحلّ بالتبريرات، بل بإعادة بناء الثقة، وكشف الحقيقة، وتحمّل المسؤوليات. أي أن الدفاع الحقيقي عن أرواح الناس يبدأ من تفكيك منظومة الفساد، وليس من إحاطة الفاسدين بغلاف سياسي ناعم.
الخطير أن هذا الخطاب يأتي في وقت يتزايد فيه وعي الشارع، ويتسع فيه النقاش العام، ويصرّ فيه المغاربة على معرفة كيف تُدار الأموال العمومية وكيف تُمنح الصفقات وكيف تُتخذ القرارات. محاولة إسكات هذا الوعي تحت ذريعة “عدم الاستغلال” لن تنجح، لأن الشعب لم يعد يقبل أن يُمنع من طرح الأسئلة التي تهم حياته ومستقبل أبنائه.
اليوم، يبدو “حزب الأباطرة” وكأنه يعلن — دون أن يدري — إفلاسه الأخلاقي والسياسي. فالحزب الذي يخاف من المحاسبة، ويعتبر النقد “استغلالاً”، هو حزب يعترف ضمنياً بأن داخل بيته ما يُخيف. وحزب يتوجس من التحقيق في الفواجع، هو حزب يدرك أن المساءلة قد تكشف ما يفضل البعض أن يظل في الظل.
لقد تغير المغرب، ودخلت البلاد مرحلة جديدة من الوعي السياسي. أما منطق حماية الفاسدين باسم “الاستقرار”، فقد أصبح جزءاً من الماضي. والمواطن اليوم لم يعد يقبل بأن يكون مجرد متفرج، أو بأن يُتهم كلما طالب بحقه في معرفة الحقيقة.
في النهاية، الرسائل السياسية التي أصدرها “حزب الأباطرة” قد تكشف شيئاً أهم من مضمونها: إنها تعكس ذعراً من المحاسبة أكثر مما تعكس حرصاً على احترام المآسي. ومن يخاف من الحقيقة، هو على الأرجح جزء من المشكلة وليس جزءاً من الحل




