د. عبد الفتاح الإدريسي البوزيدي يكتب : مرثية العمر الجميل

سبعة و عشرون عاما أنفقتها في التدريس، أتجرع مرارة نتائج الإصلاحات المستعجلة المتواطأ عليها، مهتمون يوّلون أدبارهم للشمس، و صدورهم للرمل و جباههم لما يتوارد على أذهانهم من الخواطر، و كانهم مصطافون يضعون نظارات شمسية سميكة تحجب عنهم رؤية هذا الواقع، فأشعة الإصلاح خاطفة و نزقة.
و لأنني عاطفي مثقل بأرق آخر الليل، أحلم بإشراقات تربوية ناجعة، صممت على نظم هذه القصيدة بضمير الجمع المتكلم لكي لا أدعي الاستثناء لنفسي، و الحال منصوب على الجميع. معاناتي مع مهنتي شرسة، لا تقبل الهزيمة لا إلى الالتجاء إلى الحياد، و لا إلى الخوف من الصدع بالأمر الواقع، مهما يكن من أمر لست مجبرا على الإشادة بأحد، و نحن جميعا نزلاء المؤسسة، فأنا إن سكرت فبالثمالة، و إن صحوت فبالقناعة، شرطان لا أتساهل في الإخلال بهما.
ترددت كثيرا بين إشاعة هذه القصيدة أو تركها مودعة في جيب سترتي، او في درج مكتبي؛ نقحت ما في سنوات الجفاف و القحط من سنوات الخصب، و ضعت أسئلتي بين مزدوجتين خوفا من تعرض أجوبتي لرطوبة التحليل المرتجل و الفهم القاحل. عرضت القحط و الخصب على النظر الفاحص، كان منهجي مستمدا من حنيني للحظات جميلة لازالت موشومة في ذاكرتي، و من غيرتي على عصور قادمة متعاقدة يجب حتما أن تولد مطمئنة على مستقبلها.
رسمت خريطة تربوية يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي يصعب ضبط زواياها الحادة و المنحرفة، لم أخف من ردود الفعل، و لم أخجل من غضبة مؤجلة، فغبار القسم لازال عالقا بحواسي الظاهرة، و ما زالت الأسر مصرة على تلقيح أبنائها برحيق المدارس الخاصة خوفا من واقع غير آمن و طمعا في مستقبل مجهول.
لللامعنى في تعليمنا حضور واضح، زيادة في رسوم التسجيل، نقص في الخدمات العامة، فرق في الأسعار يسوّغ للمترادفات اللغوية لأسماء المدارس ارتكاب تأويلات منعكسة على ضعف القدرة الشرائية لذوي الدخل الضعيف، لذا نرجو من الجهات الوصية على راحة أبنائنا الفقراء ألا يبالغوا في تبليط واجهات مدارسهم بألوان قوس قزح، فقد اعتادوا على أكواخهم المبيضة بالجير، لكنهم متعطشون لملء بطونهم و تنوير عقولهم، نستثني من هذا الملتمس جَبّانات يرقد فيها التاريخ نيابة عن دفينيها. بهذا الملتمس يُسدّ الباب في وجه المضاربات في أسعار المتاجرة بتعليمنا.
إلى من أشكو في هذه القصيدة و أخلاقيات المهنة في أعناقنا مسؤولية و أمانة، و منطق اللعبة خسارة متكررة، ووعد بربح سيأتي إن شاءت الصدفة. (الغبن قبل تطبيق الرؤية “استراتيجية”، و بعد توقيع عقدة العمل مغامرة) تجربة تقود إلى الحب بعد فوات أوان الحب.
الرجاء من السادة قراء القصيدة ألاّ يشركوا الميت و الحي في تأبين واحد، الرجاء التقيد بهذه الوصايا.
– من بين آلاف العيون الضاحكات لا تبكي بصدق إلا واحدة.
– وطن بدون رأي عام، تعليمه على شفا جرف هار من الانهيار.
– هناك فرق بين من يسبح في النهر و الجالس على شطه.
القصيدة
تركنا الكتاب في الرف يعلوه الغبار
و قبعنا في المقاهي ليل نهــــــــار
بعضنا يحتسي قهوة، و آخر غارق في القمار.
نتسلى بنتائج البارصا و الريال
أو نضع كلمة في خانات أبي سلمى و بشار.
حقا نحن فئة لا تخجل.
ألم نكن قدوة للصغار و الكبار؟
و نحظى بالاحترام في كل الأمصار؟
و كنا في حلق المخزن كشوك الصبار
يترصدنا في الطرقات خوفا من أي قرار؟
و صرنا الآن رمزا للامبالاة و الاستهتار.
حقا نحن فئة لا تخجل.
ألم نعد حديث الجارة و الجار؟
نملأ سطور الجرائد و نشرات الأخبار
قتل..و اغتصاب.. و انتحار..
لم تبق لنا خبايا و لا أسرار.
الرحمة الرحمة، يا ستار.. يا غفار.
حقا نحن فئة لا تخجل.
ألسنا من خونة أهل الدار؟
أفرغنا أقسامنا من أبنائنا الأبرار
و سلّمناهم لأرباب الخوصصة التجّار
بحجة أنهم مراقبون و تحت الأنظار،
هذه، و الله، أكبر وصمة عار.
حقا نحن فئة لا تخجل.
نبحث عن اللبن في خصية الحمار
و نترك ضرع البقرة المدرار.
لا نحسن الحرث لا بالمحراث و لا الجرار،
نسينا أَتُكتب العربية من اليمين أم من اليسار
لا فرق بين الجلوس أمام حداد و عطار.
حقا نحن فئة لا تخجل.
لم يعد لنا وزن لا في قرية و لا دوار،
لا نحسن إلا الاختباء وراء الفشل أو الفرار،
نعدم جرأة مواجهة الأقدار،
و نتفنّن في خلق الأوهام و الأعذار.
أين العزيمة؟ أين الثقة؟ أين الإصرار؟
حقا نحن فئة لا تخجل.
بيننا و بين أمجادنا ألف جدار.
شنقونا بحبل الدرهم و الدينار
نستلف للكبش، و السيارة، و الأسفار،
و ما تبقى لفك لعنة الحصار.
نتزايد على بعضنا في ذل و احتقار.
حقا نحن فئة لا تخجل.
طأطأنا رؤوسنا لإصلاحات بلمختار،
و سارعنا لتبليط الجدران و الأسوار،
نوقّع على مذكرات حصاد في وجل و لا إنكار،
نرتدي الوزرة كرها، و لم ندر أنها مجرد اختيار.
يا لجهلنا لما يجري في الشارع و الدار !
حقا نحن فئة لا تخجل.
ألم نؤثث مشهد اليمين و اليسار؟
و ساهمنا في رفع مستوى الحوار
لا نقدس زعيما، بل ثوريون أحرار.
ما لنا الآن لا نحسن إلا التبعية و الاجترار،
لم تعد لنا شخصية، و لم تعد لنا أفكار.