ودعنا إلى رحمة الله الواسعة محمد فارس، الكاتب الصحفي، الذي واظب منذ حوالي 20 سنة على الكتابة بالنهار المغربية. رافق هذه الصحيفة منذ ميلادها وقد نشرت بعض مقالاته وقد غادر هذه الدار الفانية. كتب قبلها في العديد من الصحف المغربية. كان يكتب باستمرار ومواظبة في صحيفة أنوال، التي اغتالها النزاع السياسي بين أبناء منظمة العمل الديمقراطي الشعبي.
كان فارس هذا المدرس المتفاني في عمله عاشقا لتاريخ الأفكار. إذا كان الآخرون بتاريخ الوقائع كان هو يتتبع تاريخ ميلاد الفكرة ونموها. قد تختلف معه في كل شيء إلا أنه يكتب بجدية تامة وصرامة منهجية لا تخطئها عين قارئ.
اختار فارس، رحمة الله تغشاه أبد الآبدين، أن يربط الحاضر بالماضي، ويجعل من الحاضر شاهدا على الماضي، ومن الماضي دلالة الطريق نحو المستقبل، في أسلوب ماتع، في جمالية تدعو إلى أخذ الحيطة والحذر من الآتي. المستقبل هو ما كان يهمه وليس الماضي حتى وهو يستغرق أغلب مقالاته. كان شعاره “المؤمن لا يلذغ من الجحر مرتين”. أي لا يمكن أن نلذغ مثلما وقع لأسلافنا، فثعبان الغرب لين الملمس لكن سمه يقتل على مهل وبعد حين. “سم في عسل”.
كنا نزعجه أحيانا بتعديلات في مقالات تتماشى مع العملية التحريرية فيغضب حينا ويضع قلمه جانبا حتى يعود إليه مزاجه. كان رافضا للتعامل مع التقنيات الحديثة. لم يستعمل الهاتف الذكي وكان مصرا على كتابة مقالاته بخط يده. يكتب بالحرف التقليدي البارز كأنه خطاط. يكتب مقالات “لاتموت”. يعني ليست سلعة سريعة البوار. كان أحيانا يبعثها عبر البريد لكنها تحتفظ بطراوتها.
رجل زاهد في كل شيء. لو كان محبا للأضواء لطبع عشرات الكتب. في الغالب كان يكتب تحت تيمات محددة. قارئ جيد للفلسفات الغربية والتاريخ. لا تفوته لحظة من لحظات تطورات العقل البشري. يلتقط اللحظة الراهنة ليربطها بشجرة أنسابها. يمزج في كتاباته مناهج متعددة دون تحشيد ولا حشو.
كتاباته عميقة لكن بأسلوب يليق بقارئ صحيفة يومية. بساطة في الأسلوب وتعقيد في الفكرة.
لم يقم بجمع كتاباته التي تصلح كي تكون مؤلفات كاملة الدقة والإتقان.
قليلا ما كان يزورنا في مقر هذه الصحيفة وقليلا ما كان يتصل بالهاتف. لا يسأل عن مقال لم يصدر لاعتبارات تحريرية. ظل يحمل في دواخله غضبا مما وصلت إليه الكتابة اليوم حيث قلت الجدية وانتشر التسطيح القاتل للأفكار.
وداعا فارس الكلمة وسلام عليك حيث أنت في العلياء عند رب كريم ورحمة الله وبركاته.
إنا لله وإنا إليه راجعون.