العرب والإسلام: من الهزيمة إلى الانهزام مراجعة فكرية لكتاب “العرب والإسلام: من الهزائم إلى الانهزامية”

في زمن تتكاثر فيه الأصوات السطحية وتُغرق الفضاء العام بآراء لحظية، يأتي كتاب المؤرخ البلجيكي-المغربي فريد بحري كضوء باهر في عتمة الفكر العربي المعاصر. في عمله الصادر عن منشورات “أفريقيا الشرق”، والموسوم بـ**”العرب والإسلام: من الهزائم إلى الانهزامية”**، لا يطرح بحري تأريخًا تقليديًا للنكبات السياسية أو العسكرية، بل ينفذ عميقًا إلى الشقوق الداخلية للوعي العربي، حيث تحوّلت الهزائم إلى بنية نفسية، إلى نمط تفكير، إلى قدر متخيّل.
العرب وهوس الماضي: من الأسطورة إلى العجز
بحري لا يغازل القارئ. لا يلجأ إلى العاطفة، ولا يرضى بالخطابة. بل يعرض تشريحًا عقلانيًا لتلك النزعة العربية المستمرة في تمجيد ماضٍ مثالي وتفسير الحاضر بالقدرية. يرى أن “النكبة الكبرى” ليست في سلسلة الهزائم، بل في الاستسلام لها ذهنيًا وتحويلها إلى هوية. فبدلاً من أن تكون الهزيمة فرصة للمراجعة، تُعاد صياغتها كحالة أبدية، مزينة بخطاب ديني أو قومي مُحبط.
من السقوط في بغداد إلى السبات في النهضة
يحدد المؤلف سقوط بغداد عام 1258 كنقطة انهيار رمزية للعرب، حين خرجوا “من التاريخ من الباب الخلفي”، وفق تعبيره. ومنذها، لم يستعدوا موقعهم، بل دخلوا حلقة من التقهقر الوجودي، حيث فقدت العروبة طموحها العالمي، وتحولت إلى قوقعة دفاعية تبحث عن تطهير رمزي من خلال استعادة الماضي.
وفي تناول مرحلة النهضة (النهضة العربية في القرن التاسع عشر)، يرسم بحري صورة قاتمة: العرب استيقظوا من نوم عميق ليجدوا أن العالم تغير دونهم، فاكتفوا بالذهول بدل البناء. ويشبههم بـ”أهل الكهف”، الذين استفاقوا على حداثة لا يفهمونها.
الإسلام السياسي: الملاذ الذي تحول إلى مأزق
يتعمق الكتاب في تحليل الانزياح من القومية إلى الإسلاموية، حيث تحوّل الدين من مرجعية روحية إلى مشروع سياسي شمولي، يحمل في طياته نزعة إقصائية ورفضًا للحداثة. وهنا يُبرز بحري أن العودة إلى “الإسلام الأصل” ليست مشروعًا للتجديد، بل تكريسًا لذهنية الهزيمة المقنّعة بالإيمان.
الربيع العربي: فرصة ضائعة
في فصوله الأخيرة، يتناول المؤلف الربيع العربي بوصفه “هبة رومانسية” تحوّلت بسرعة إلى نكسة أعمق. يكتب بحري بجملة قاطعة: “الديمقراطية حُلم عابر، لم تُعاش من الداخل بل من خلال الشاشات”، ويشير إلى أن الشارع العربي لا يملك تقليدًا سياسيًا حديثًا يؤهله لفهم الحرية كفعل مدني، مما أدى إلى انزلاق سريع نحو الإسلام السياسي وعودة الاستبداد.
تشخيص بلا تسكين
لا يقدم بحري حلولًا سهلة. ولا يكتفي بالبكاء على الأطلال. بل يواجه القارئ بحقيقة موجعة: “العرب يملكون ماضيًا، لكنهم لا يملكون مستقبلًا ما داموا يعتقدون أن طريق الخلاص يمر حصريًا عبر العودة إلى الإسلام الأولي، وأن الحداثة عدو يجب إسقاطه.”
عمل نقدي نادر في زمن التمجيد
ما يميّز هذا الكتاب هو رفضه التام للخطاب التبريري الذي يسود كثيرًا من الإنتاج الفكري العربي. فبحري لا يحمّل المسؤولية فقط للاستعمار أو الغرب أو الصهيونية، بل يحمّلها أولًا للنظام الرمزي الذي بنته الذات العربية حول نفسها، والذي أعاقها عن رؤية الواقع والتفاعل معه بجرأة ومسؤولية.
خاتمة: صوت يقظ في زمن التنويم
“العرب والإسلام: من الهزائم إلى الانهزامية” ليس كتيبًا سياسيًا ولا صرخة أيديولوجية. إنه مرآة فكرية تنبّه العرب إلى خطر الغرق في النوستالجيا أو الفوبيا، وتدعو إلى إعادة التفكير الجذري في العلاقة مع الذات، مع الدين، مع العالم.
إنه كتاب لا يريح، بل يوقظ. وفي زمن تُستهلك فيه الكلمات بسرعة، فإن فكرًا يُزعج أفضل من خطاب يُرضي.
ية”… مرآة فكرية لأزمة حضارية تتوارى خلف الشعارات