لا يتغير معنى المعاناة بتغير الأمكنة والأزمنة؛ تتغير فقط تجلياتها، ويبقى أصلها. ومع تعدد أوجه التشابه، يبقى الاختلاف في الصبر والقدرة على التحمل، فهناك من يتجلد أمام محن، وهناك من ينكسر أمام أخرى. تلك هي حالة صَفَاء التي لم تثنها الظروف الاجتماعية المزرية عن متابعة دراستها بنجاح إلى أن حصلت على شهادتها الجامعية وتخرجت.
صفاء فتاة هادئة، ثقافتها عالية، وأخلاقها أعلى، تنتمي إلى أسرة بسيطة تعيش وسط حي شعبي بمدينة فاس. يتسم الحي بالعشوائية الضاربة في التبعثر لعمرانه، وبالضياع البالغ لأهله. والدها على سجيته فقير أمي، يبيع الحلويات والفواكه اليابسة على بسطة بالسويقة. إنه رجل على طبيعته مسالم لا يعرف اللف والدوران. أحلامه صغيرة بسيطة، وتكاد تنعدم فهي لا تتعدى حدود لقمة العيش والنوم الهنيء حتى الصباح. لا يطمع في امتلاك قلَل بطريق إيموزار، ولا في ركوب أفخم السيارات. يعيش اليوم بيومه، قانع، حامد، شاكر، ومقبل ليده كف وظهر.
وصفاء ليست حديثة العهد بالمعاناة، فتجربتها معها طويلة، يمكن القول بأنها رضعتها مع حليب أمها، إذ يكفي الحرمان من كل شيء لنفهم معنى المعاناة: الحرمان من الأكل المتوازن، واللباس الأنيق كباقي فتيات عصرهاو.. و..و… وبعد فشل أخيها البكر في تحقيق حلم العائلة بانتشالها من الأوضاع المزرية التي تعيشها إلى أوضاع اجتماعية أفضل، تحولت كل الأنظار نحوها، وأصبحت بذلك المنقذة الوحيدة لجميع من في المنزل.
كانت فرحتها بقبولها بمركز تكوين الأساتذة لا توصف. وأخيرا تحقق الحلم ونالت المراد. لكن بعد انقضاء مدة التكوين، عاشت صفاء أياما، لا ردها الله، عصبية جراء القلق والتوتر بسبب مسألة التعيين. كانت تخشى أن تعين في منطقة نائية ومعزولة يصعب العيش فيها والتأقلم مع أجوائها.
وكثيرا ما يبتلى الإنسان بما كان يخشاه، إذ عينت صفاء بإحدى القرى النائية بالأطلس المتوسط. فلكي تصل إلى عين المكان، استوجب عليها أن تستقل جميع أنواع وسائل النقل: بدءا بالنقل المشروع، ومرورا إلى النقل السري، ومنه إلى ركوب الحمير والبغال، وفي الأخير، إنهاء المسافة مشيا على الأقدام. الطرق ليست مبلطة، والتضاريس وعرة، أما الجو فأوعر. البرد قارس، والثلوج تغطي السهول والجبال والأشجار والمنحدرات. ولكي تستمر الحياة، يجب تخصيص ميزانية ضخمة ـ أكثر مما تخصص للطحين والشاي والسكر ـ لاقتناء حطب التدفئة. هذا لمن توفرت لديه ميزانية، أما لمن لم تتوفر، فكان الله في عونه. ومن هنا ستبدأ صفاء رحلتها الجديدة مع المعاناة، لكن هذه المرة ستكون معاناة من نوع آخر؛ ستركب زورقا ملعونا ومثقلا بهموم ألوانها مختلفة وروائحها خاصة. زورق ستخر قواه أمام قوة يم جبار لا يرحم، وسيغرق عند أول محاولة للتجذيف.
ومن فضاء حركي ينبض بالحياة بالمدينة، إلى فضاء جامد ورتيب بالبادية. الجمود ظاهر في كل شيء: مسكن بارد ومعزول بالرغم من تواجده وسط السكان لأنه يفتقد للدفء الأسري الذي ألفته في بيتها البسيط، ولسوء حظها كانت الأنثى الوحيدة بالمدرسة. أما باقي الأساتذة، فكلهم ذكور، لذلك لم تجد أية رفيقة تقتسم معها السكن، فأصبحت مضطرة للاستئناس بجدران بالية بهت طلاؤها منذ فترة طويلة، وبأعمدة سقف سخي لا يبخل بقطرات الماء كلما صب المطر. فتجد المسكينة لا تكف عن نقل أمتعتها وفراشها من ركن لآخر تجنبا للبلل وتبعاته… يتبع.
ما زال الكاتب نجيب اتريد يتحفنا بين الفينة والأخرى باقتحامه بجرأة عالية لمواضيع اجتماعية بصنعة أدبية عالية، تجذب المتلقي بسحر الكلمة الصادقة وقوة الأسلوب المعبر ،ليعيش مواقف إنسانية مع شخوص لم ينصفهم التاريخ ولم يحالفهم الحظ ،ولكنهم تشبتوا بالأمل حتى آخر رمق في حياتهم.وفي هذه القصة أثار الكاتب مسار شخصية تدعى "صفاء'،ويبدو أن اختيار هذا الاسم ليس من باب الصدفة، فهو يحيل على النقاء والطهارة والوضوح وكأن الشرفاء والنزهاء يتربص بهم سوء الطالع باستمرار، فصفاء الفتاة التي تحدت العقبات والصعاب منذ طفولتها تصطدم كل مرة بعراقيل جديدة تثبط أحلامها وتثنيها عن المضي قدما في مشروعها وهذه المرة تتنفس الصعداء بنجاحها في مباراة الأساتذة لكنها ستدخل في مسلسل جديد من المشاكل عندما ستلتحق بالتدريس في قرية نائية تفتقر لأبسط متطلبات العيش لتبدأ معاناة هذا الجسد الانثوي الجريح -من جديد – في فضاء لا يبعث على التفاؤل .ولكن لا يمكن أن نتسرع في الحكم على نهاية هذه القصة ،فربما للكاتب رأي آخر. فهل من المعقول أن تستحق صاحبة اسم صفاء وابنة بائع الحلويات أن تكون حياتها بهذه الدرجة من القتامة والمرارة؟