شعار “قيمة بلادنا سكانها”، الذي يؤطر الإحصاء العام للسكان والسكنى، تتركز فيه معاني كبيرة من الخطأ الفاحش حصرها في “الرسالة الإحصائية” المرتبطة بمحطات لا تتكرر إلا على رأس كل عشر سنوات، وتتوجه تلك الرسالة بشكل مكثف نحو السكان، والذي يساعدنا في اكتشاف تلك المعاني هو تحوير ذلك الشعار ليصبح “قيمة وطنا في كرامة مواطنيه” لنجد تلك المعاني تمتد لتغطي مختلف جوانب الحياة اليومية للمواطنين، وتسائل ليس فقط المواطن بل السياسات العمومية حول واقع كرامة المواطن التي بدونها لا تكون هناك وطنية ولا مواطن. ومن المؤسف حقا أن تنتشر ثقافة يمكن نعتها بـ”ثقافة لا مواطن”، ولا يقدم مجهود يذكر لمحاربتها بصفتها تمثل إحدى ركائز الفساد والاستبداد.
و مثلا من أجل التمكين لشعار “الرسالة الإحصائية” بذل مجهود تواصلي كبير، حيث برمجت المندوبية السامية للتخطيط في إطار هذا الإحصاء ما مجموعه 7560 وصلة إشهارية تبث بالقنوات التلفزية الوطنية باللغات واللهجات المتداولة في المغرب بمعدل 126 وصلة إشهارية في اليوم. وحسب ما أعلنته المندوبية، شملت الحملة التواصلية جميع قنوات ووسائل الاتصال وجرى في إطارها أيضا بث 13 ألف و300 وصلة إذاعية باللغات الرئيسية المستعملة، وإعداد وإنتاج فيلم مؤسساتي حول الإحصاء العام، زيادة على نشر 199 إعلانا إشهاريا باللغتين العربية والفرنسية ب 56 جريدة وطنية.
ونفس المجهود التواصلي أو أكثر لا يصرف إلا في محطات سياسية بامتياز وتهم بالخصوص الانتخابات. وفي غير الانتخابات والاستفتاءات والإحصاء العام، لا نكاد نجد حملات حقيقية بمجهود تواصلي مماثل يكون شاملا وكبيرا وممتدا في الزمان تدعو المواطنين إلى الانخراط المواطني فيها. و حملات التبرع بالدم مثلا، رغم أهميتها في الأمن الصحي العام، ورغم أن مصدر الدم الوحيد هو المواطن، لا تعبأ لها الموارد الكافية للتحسيس والإدماج!
لكن من أجل التمكين لثقافة “قيمة وطنا في كرامة مواطنيه” لا نكاد نجد مجهودا تواصليا يذكر يقوم بتوعية المواطنين بما يحفظ كرامتهم من الحقوق والواجبات ( بما أن النضال من أجل الكرامة واجب على كل مواطن).
وإذا كانت مكانة المواطن تتضخم في القضايا السياسية والشبه سياسية المشار إليها سابقا، والتي يطلب منه فيها أن يكون في موقع “العاطي” أو القائم بالواجب، فإن مكانة المواطن تلك تضمر في موقع “الآخذ” خاصة حين يتعلق الأمر بحقوقه وما يصون كرامته.
و ثقافتنا في الإدارات مثلا ليس فيها شيء اسمه المواطن، ولكن تضخم فيها شيء اسمه المسؤول الذي لا ينبغي أن يُغضب للمحافظة على المنصب. والفرق بين الحالتين كبير رغم ما يتحصل للمواطن من مصالح فيهما، ففي الأولى يكون المواطن هو محور الخدمة العمومية، ومؤشر النجاح يكون في قدر رضاه على تلك الخدمة. أما في الحالة الثانية فيكون إرضاء الإدارة هو محور تلك الخدمة. لذلك لا يتردد الموظفون ومقدمي الخدمات العمومية في ممارسة كل أشكال الابتزاز و التماطل و هدر أوقات المواطنين وتضييع مصالحهم، بل وإهانتهم والحط من كرامتهم إذا أمنوا بأس إداراتهم.
ويمكن هنا إعطاء بعض الأمثلة الدالة، فقناة “ميدي1 تيفي” حين حجبت دون إنذار ولا اعتذار حلقة كانت مبرمجة ضمن برنامج المحققون الأسبوع الماضي، لم تُقِم وزنا للجمهور الذي كان أمام شاشة التلفزة في انتظار بث تلك الحلقة، ولكن كان الوزن للمسؤول الذي قرر حجب تلك الحلقة بشكل فجائي مهين. وفي الإدارات، لا يقيم الموظف وزنا لطابور المواطنين الذي يقف أمامه حين يكون منشغلا عن خدمتهم باتصالات هاتفية شخصية، أو بقراءة الجريدة، أو بالدردشة مع زميله في العمل…، ولكن نفس الموظف قد يخجل من ذلك الطابور بحضور مسؤول. و معروف لدى كل المغاربة أن نظافة مدنهم وإنارتها و أمنها و سلامة طرقها وتأهب مسؤوليها ومصالحها تكون في أعلى مستوياتها إعدادا لزيارة مسؤول كبير في الدولة وحينها، ولكن تعود الأمور إلى سابق عهدها بعد ذلك، فتنهار جودة الخدمة العمومية إلى حضيضها. وقد تقرر شركة الماء والكهرباء مثلا قطعهما على مجمع سكني أو حتى مدينة بكاملها، سواء في الصيف أو في رمضان ، دون سابق إنذار ولا اعتذار، كما حدث بالفعل في عدة حالات. و في حالات كثيرة تلغى رحلة عبر الطائرة في أحد المطارات دون سابق إنذار فلا تهتم الشركة المعنية بركابها وفي حالات يقضون الليل في المطار دون أن يهتم بهم أحد، وقد يتأخر القطار أو الحافلة أو المسؤول عن مصلحة، ولا يقدم اعتذار بل ولا يقبل أي تنبيه أو انتقاد أو احتجاج.
بل إن تلك الثقافة هي التي تفسر جانبا كبيرا من أعراف ممارسة المسؤولية عندنا، حيث لا يستقيل المسؤول من تلقاء نفسه حين يكذب، أو يتورط في فضيحة، أو يرتكب خطأ مهنيا كبيرا، وغير ذلك. فمادامت إدارته راضية عنه فلا يهم شيء بعد ذلك !
الأمثلة السابقة نماذج من الحضيض الذي يستقر فيه المواطن في ثقافتنا وإداراتنا، وهي ثقافة يمكن نعتها بـ “ثقافة لا مواطن”.
وبالرجوع إلى شعار الإحصاء، يمكن القول إن شعار “قيمة بلادنا سكانها” لا يمكن أن تكون له قيمة حقيقية إلا بقدر تحقيق شعار “قيمة وطنا في كرامة مواطنيه”، وقيمة الوطن لا تكون بحجم المؤشرات السوسيو اقتصادية، ولكن بحجم تمتع المواطنين فيه بكرامتهم. وكرامة المواطن تبدأ بالاعتراف به، وتقديره، واحترامه.
إن الإدارة لا تكون مواطنة إلا بقدر حرصها على كرامة المواطنين و رضاهم، وتكون نقيض ذلك بالاستمرار على ما هي عليه في المغرب