الساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحا. البرد قارس، لكن الفضاء مضاء، لأن السماء صافية والشمس بدأت ترسل خيوطها الذهبية من الأفق. لفحات البرد تلطم خدود الأطفال وتلسع أجسادهم الصغيرة وهم في طريقهم نحو المدرسة التي تتمركز خارج الحي ببضع أمتار.
في مقدمة الحي يقبع بيت قديم تشققت جدرانه وانمحت آثار طلائه، فأصبح لونه أحمر داكن بفعل الغبار الذي تراكم عليه. وفي الجانب الأيسر للباب، تخيم شجرة دائمة الاخضرار. إنها شجرة الورد الأبيض التي لا ينقطع عطاؤها إلا لفترة قصيرة من السنة. الأطفال يقطفون ما تفتح في اليوم الأول، والأخرى تظهر في الثاني. وتحت الشجرة تجلس “مي مباركة” كالرادار الكاشف ترقب الداخل إلى الحي وكذلك الخارج منه. إنها امرأة عجوز تعيش لوحدها في ذلك البيت البائس المهجور. فهي العجوز العصبية التي لا تكف عن التكلم مع نفسها وعن الشجار مع أطفال الحي الذين يأتون لقطف الورود. كان الأطفال يحبونها ويحبون عصبيتها، ويتساءلون دائما عمن تكون وعما إذا كانت قد وجدت في هذه الدنيا بدون أبوين وبدون عائلة. لقد تعودت على العيش لوحدها وقضاء معظم وقتها بباب المنزل تحدث نفسها بصوت مسموع لكنه غير مفهوم. ومن خلال طريقة كلامها وحركاتها، كانت تبدو وكأنها تخاصم أحدا مجهولا. فهي دائما تمسك بيدها عصا، لكن لا تستخدمها في شجار مع الأطفال بل تستعملها في تسريح مجرى الواد الحار الذي يمر مكشوفا فوق الأرض ومخترقا الحي كله حتى لا يحتقن الماء ويصدر مزيدا من الروائح الكريهة وينتج مزيدا من الميكروبات المسببة للأمراض.
الحي مهمش وعشوائي. السكان فقراء، بؤساء، ضائعون. أكوام من الأزبال في كل ركن. وأنت متجه نحو الحي، لا تكاد ترى سوى بعض النباتات والأشواك التي تعلق بها أكياس البلاستيك ككرات تتراقص مع هبوب الرياح. أطفال وشبان في مقتبل العمر يتأبطون صناديق خشبية بداخلها أدوات لمسح وتلميع الأحذية. كهول يدفعون عربات لبيع “طايب وهاري” وأخرى لبيع الحلزون والحلويات والسجائر بالمفرق. هناك شيوخ وعجائز يطلبون الصدقة ويسعون باب الله. كل هؤلاء وجهتهم واحدة ألا وهي وسط المدينة حيث الحركة والبركة و”الناعورة دايرة” أكثر من الحي.
وذات يوم وقفت سيارة رباعية الدفع أمام منزل “مي مباركة” فنزلت فتاة جميلة، صغيرة السن بلباس مكشوف لا يكاد يغطي سوى مناطق قليلة من جسمها، فأمسكت بيد رجل وسيم وأنيق في حوالي الخمسين من عمره. كان هو صاحب السيارة. تقدمها بخطى واثقة وهو يخاطبها بلهجة غير معهودة لدى سكان الحي: “ـ ودروك لوين نروح؟” قالت وهي تحيي “مي مباركة” بحركة من رأسها وبابتسامة خفيفة من شفتيها: “ـ أجي.. دارنا هناك..” كانت تمشي واثقة من نفسها ومفتخرة بصيدها الثمين. لم ترد “مي مباركة” على التحية، كانت مندهشة لما رأت وسمعت ثم تمتمت: “ـ من هو ذلك الرجل الغريب الذي أتى برفقة رقية؟ سبحان الله إنها لا تستحي.. تكاد تمشي عارية.. وفوق كل هذا تصطحب معها رجلا غريبا إلى البيت..” قالت ذلك ثم عادت لتخلط بعصاها مجرى الواد الحار. وبعد أن توقفت، أضافت: “ـ سبحان الله.. حي ميكة ولى بحال الساندلة ديال الحمام، لي جا يخشي رجليه..”
وفي المساء خرج مهدي، الأخ الأصغر لرقية، فنادت عليه “مي مباركة”:
“ـ أجي لهنا أداك حديدان، شكون داك الراجل لي جا مع أختك رقية؟”
“ـ هداك راه راجلها”
“ـ شكون..؟ راجلها..؟ ومنين هو؟”
“ـ هو جزائري. كاين ففرنسا”
“ـ إوا دابا نشوفو هاد فرنسا.. راه قالك عند الفورة يبان لحساب..”
دخل الغريب بيت أبي رقية خاطبا، فأصبح الحي كله على علم بذلك. يا للحظ السعيد. كان ذلك هو حلم جل فتيات الحي: الذهاب للعيش في أوروبا وركوب أفخم السيارات. بدأ الغريب يدخل ويخرج من المنزل بكل حرية. أصبح يتصرف كما يشاء، ويعبث كما يشاء.. يتبع.