Site icon جريدة صفرو بريس

نجيب أتريد اليازغي يكتب : المتشردة (1)

كان يراها في ذهابه وفي إيابه ولكنه لم يكن يهتم لأمرها. كانت دائما تمر بجانبه كأي شيء يتدحرج على الطريق بفعل قوة دفع الرياح، فيحدث صوتا يجعله ينظر إليه، لكن سرعان ما يشيح بوجهه نحو الجانب الآخر، حيث بعض المباني الجميلة وبعض المحلات التجارية التي كانت بالأمس القريب مغلقة؛ فأتاها الربيع واخضرت وأينعت وأصبحت تؤتي أكلها. وقف مذهولا متأملا تلك البنايات فسرح بفكره بعيدا: “يا ليتني كنت أخذت بنصيحة أولئك الذين أشاروا علي بشراء هذه الأراضي قبل بنائها، فلو فعلت ذلك، لكانت اليوم كل هذه المباني لي، ولكنني اكتفيت بما كنت أملك ظنا مني أني قد امتلكت الدنيا وما فيها! وعلى أية حال، ليس هذا هو المهم، فالأهم هو أني الآن مستور والحمد لله. لدي منزلي الذي أسكنه وعشر منازل أخرى مع بعض المحلات التجارية التي أجرتها وهاأنذا اليوم أستفيد من دخلها. لدي كذلك تجارتي الرائجة التي تدر علي أرباحا مهمة. أما الأجمل من هذا كله هم أبنائي الذين أفتخر بهم، فالبكر منهم ضابط بالجيش والثاني طبيب ناجح أما آخر العنقود فهي ابنتي الحبيبة التي تشتغل كمضيفة طيران والتي تزوجت مؤخرا من رجل أعمال كبير بالبلد! أبنائي صالحون وأنا بدوري راض عنهم، يأتون لزيارتي باستمرار كما أنهم يهتمون لأمري كثيرا، ففي بعض الأحيان يأخذونني للطبيب حتى قبل أن أشتكي ! بصراحة ليس هناك أهم من لمة الأولاد والأحباب والعائلة. فهم الذين يملأون القلب دفئا وحبا.

   ولما أفاق من أحلامه وانتهى من تأملاته، استأنف طريقه داخل جلبابه الأبيض منتعلا بلغتيه الصفراوين اللتين تجلبا الأنظار من بعيد، وهو ينظر من وراء نظارتين مستطيلتا الشكل زادتا من أناقته ووسامته. كان في الطريق إلى متجره يرد التحايا بكلتا يديه ورأسه ويوزع الابتسامات في كل الاتجاهات. كان يمشي الهوينى مزهوا بنفسه مثل نمر في الغابة.

   وفي إحدى صباحات فصل الشتاء الممطر والشديد البرودة، غادر بيته في اتجاه متجره، فالتقى بها كعادته، لكن هذه المرة ستلفت نظره وتسترعي انتباهه عكس المرات الفائتة، كانت قادمة من الاتجاه المعاكس لها ، بكسوتها المزركشة البالية المحزومة بحزام يشطرها إلى نصفين، كان رأسها ملفوفا بعدة قطع من القماش، القطعة فوق الأخرى لا يتبين لها إلا العينين والأنف وذلك الفم المبتسم دائما والمغمغم بكلمات لا يعرف أحد إلى أية لغة تنتمي، كانت تمشي بسرعة والبخار يخرج من فمها بفعل درجة الحرارة المنخفظة جدا وكأنها ذاهبة إلى أي عمل أو لقاء مهمين. كانت تحمل فوق ظهرها رزمة من الأغراض المبللة بماء المطر، وفي يدها اليمنى كيس بلاستيك، أما اليسرى فتحمل قطا صغيرا. كان هذا ما شد انتباه العم حمزة لها، فمنذ ذلك اليوم وهو يراقبها حتى اكتشف بأنها تجمع القطط الصغيرة أينما وجدتها ثم تأتي بها لتحضنها في المكان الذي تبيت فيه. ظلت ذاهبة وهو يتعقبها إلى أن دخلت إلى إحدى المباني المهجورة، فخرج لاستقبالها قطيع من القطط الصغيرة، وأخذوا يتمسحون بقدميها وهي تتحسب لكي لا ترفس أحدهم، ظلوا يتعقبونها وهي تمشي داخل البناية إلى أن استقرت في إحدى الزوايا، فجلست وجلسوا بحضنها. مدت يدها إلى كيس البلاستيك وأخرجت قنينة بيضاء وإناءا صغيرا ثم سكبت الحليب وبقيت تتفرج على القطط وهي تشرب بدون انقطاع حتى اكتفت وتراجعت إلى الوراء بمحض إرادتها. لقد تغذت القطط واستمتعت المرأة. ظلت تلاعبهم وتداعبهم حتى غلبها النعاس، فاستلقت على جنبها الأيمن ووضعت يدها تحت رأسها وغطت في النوم فوق قطعة من الورق المقوى؛ بينما القطط ظلت تطوف حولها حتى استفاقت.

   احتار العم حمزة في أمر هذه المرأة! ما هي قصتها؟ هل هي حمقاء أم عاقلة؟ كيف تستطيع النوم في مكان كهذا ولفحات البرد تلسع جسدها النحيل؟ أليس لها بيت يؤويها وعائلة وأولاد يحضنوها؟ ولنفترض مثلا أنها ليست عاقلة، فلماذا تحنو على القطط؟ تجمع الأكل من عند المحسنين وتطعمهم قبل أن تطعم نفسها! لو كان لديها أولاد من بطنها لما عاملتهم بمثل تلك المعاملة ولما أغرقتهم في حنانها وعطفها. فلماذا يكتنف حياتها كل هذا الغموض؟ بدون شك أن تلك الابتسامة تخفي أسرارا عدة. فعندما تدقق النظر في وجهها يتبين لك بأن وراء تلك التجاعيد والنتوءات تختبئ تقاسيم جمال الشباب. المرأة كانت جميلة في صباها، كما كانت ممتلئة بالحيوية والنشاط، فهذا ما جاء على لسانها حينما استأنست له وشعرت بالأمان معه…  يتبع

Exit mobile version