مرة أخرى، يجد المغاربة أنفسهم أمام معطى صادم يختزل عمق الاختلالات البنيوية التي يتخبط فيها القطاع الفلاحي، ويكشف حدود الخطاب الرسمي الذي يصر على تسويق الفشل في قالب “النجاح”. أن يستورد المغرب، البلد الذي راكم تاريخيا صورة “القوة الفلاحية”، مادة التبن من البرازيل وبمبالغ ضخمة من العملة الصعبة، فذلك ليس مجرد رقم في ميزان الواردات، بل مؤشر سياسي واقتصادي ثقيل الدلالة.
هذا الخبر، في ظاهره تقني، لكنه في جوهره شهادة إدانة صارخة لمسار سياسات فلاحية امتدت لأكثر من عقد، منذ إطلاق ما سُمي بـ“مخطط المغرب الأخضر”، الذي روج له كقصة نجاح إفريقية، قبل أن يتحول اليوم إلى أحد أكبر عناوين الإخفاق. فالمخطط الذي وعد بالاكتفاء، والأمن الغذائي، ودعم الفلاح الصغير، انتهى إلى تعميق التبعية، وإضعاف الفلاحة المعيشية، وربط القطاع بمنطق السوق والربح السريع، لا بمنطق السيادة الغذائية.
والأخطر من ذلك، أن وزارة الفلاحة، رغم التغييرات الشكلية، ظلت عمليا تحت النفوذ السياسي والاقتصادي نفسه. فخروج عزيز أخنوش من الوزارة وانتقاله إلى رئاسة الحكومة لم يكن قطيعة مع الاختيارات، بل إعادة توزيع للأدوار داخل نفس المنظومة. السياسات لم تتغير، والخطاب لم يتراجع، والنتائج الكارثية تتوالى.
المغاربة، خلال فترة هذه الحكومة، لم يحصدوا سوى الأزمات: غلاء غير مسبوق في المواد الغذائية، تراجع القدرة الشرائية، انهيار منظومات الدعم، اختلالات في التزود بالماء، وأخيرا فشل فاضح في تأمين أبسط مقومات العلف للماشية. ومع ذلك، يخرج علينا مسؤولو الأغلبية الحكومية ليحدثونا عن “الإصلاح”، و“التحكم في الظرفية”، و“الإنجازات الهيكلية”، وكأن الواقع مجرد سوء فهم شعبي.
المفارقة الصادمة أن كل كارثة تتحول، في خطاب أحزاب الحكومة، إلى فرصة للتباهي. الجفاف “اختبار للنجاعة”، الغلاء “أزمة عالمية”، استيراد التبن “حل استباقي”، وتآكل القطيع الوطني “إعادة هيكلة للقطاع”. هكذا يتم قلب المفاهيم، وتفريغ السياسة من مضمونها، وتحويل التدبير العمومي إلى عملية تبرير دائم للفشل.
ما يحدث اليوم في القطاع الفلاحي ليس قضاء وقدرا، ولا نتيجة ظرفية عابرة، بل حصيلة خيارات واضحة: تفضيل الفلاحة التصديرية على حساب الفلاح الصغير، ربط الأمن الغذائي بالمضاربين والوسطاء، وترك السوق “تشتغل” على حساب المجتمع. والنتيجة أن المغرب، الذي كان ينتج العلف، صار يستورده، والذي كان يراهن على الاكتفاء، بات رهين الخارج.
أخطر ما في الأمر ليس استيراد التبن في حد ذاته، بل محاولة تطبيعه سياسيا، وكأنه سلوك عادي في بلد فلاحي. هنا تكمن الأزمة الحقيقية: أزمة خطاب، وأزمة محاسبة، وأزمة تصور للدولة ودورها الاجتماعي. فحين تقدم الكارثة كإنجاز، يصبح الفشل سياسة، ويطلب من المواطن أن يصفق وهو يدفع الثمن.
إن ما يعيشه المغاربة اليوم ليس فقط أزمة فلاحة، بل أزمة نموذج كامل، تدار بعقلية المقاولة لا بعقلية الدولة، وتسوق بالكلمات بدل النتائج. وفي ظل هذا الوضع، يبقى السؤال معلقا: إلى متى سيستمر تحويل الأزمات إلى “نجاحات”، والمواطن إلى مجرد متفرج على تدهور شروط عيشه؟
من التبن المستورد إلى الأزمات المؤدلجة: حين تتحول الكوارث إلى “إنجازات” في زمن حكومة أخنوش

