عاد الجدل إلى الساحة الوطنية مؤخرا حول مطلب مقاطعة مقابلات المنتخب المغربي والدعوة إلى إلغاء تنظيم كأس العالم 2030، بحجة أن الأولوية يجب أن تعطى للتعليم والصحة والبنيات الاجتماعية. طرح يبدو في ظاهره نابعا من حس اجتماعي نبيل، لكنه في العمق يعيد إنتاج نفس منطق الشعبوية القديمة الذي سمعناه سابقا في النقاش حول مشروع القطار فائق السرعة TGV، حين روج لفكرة أن كلفته كان من الأفضل توجيهها لبناء المستشفيات والمدارس.
اليوم، وبعد سنوات من إطلاقه، أصبح TGV رمزا للتحول الكبير الذي يعرفه المغرب في مجال البنيات التحتية والنقل، وواجهة حضارية تقدم صورة بلد يسير بثبات نحو الحداثة والتقدم. لم يكن المشروع ترفا، بل استثمارا في المستقبل، أتاح فرص شغل، وساهم في تطوير مناطق بأكملها، ورفع من تنافسية الاقتصاد الوطني.
المشهد نفسه يتكرر مع الجدل الدائر حول كأس العالم 2030، إذ ينظر البعض إليه بمنظار الصرف الزائد، دون إدراك أن هذا الحدث الكروي العالمي يمثل فرصة اقتصادية وسياحية غير مسبوقة، يمكن أن تدر على المغرب عائدات مالية ضخمة، وتفتح الباب أمام استثمارات جديدة، وتخلق آلاف مناصب الشغل، فضلا عن تعزيز صورة المملكة كقوة إقليمية مستقرة وجاذبة.
الخطاب الملكي الأخير كان واضحا في هذا السياق، حين أكد الملك محمد السادس أن المغرب لا يرى أي تعارض بين المشاريع الاجتماعية والمشاريع الكبرى، بل يعتبرهما مسارين متكاملين يخدمان الهدف نفسه: بناء مغرب متوازن، صاعد، وعادل. فتنظيم كأس العالم لا يقصي المستشفيات والمدارس، بل يمكن أن يكون رافعة لتسريع إنجازها عبر ما يولده من دينامية اقتصادية وتنموية.
بين الشعبوية والنضال خيط رفيع. من السهل إطلاق الشعارات حول “أولويات الشعب”، لكن من الأصعب صياغة رؤية شاملة تدرك أن التنمية لا تختزل في قطاع واحد، وأن الرقي الاجتماعي يحتاج إلى اقتصاد قوي واستثمارات كبرى تولد الموارد الضرورية لتمويل السياسات الاجتماعية.
إن المغرب الذي يطمح إلى لعب أدوار ريادية قاريا ودوليا لا يمكنه أن يتراجع إلى منطق الاكتفاء بالحد الأدنى، بل عليه أن يمضي بثقة في طريق مزدوج: بناء الإنسان وتشييد البنيات. وبينهما تكمن معادلة التوازن التي أكد عليها الملك: لا منافسة بين المشاريع، بل تكامل وتناسق في خدمة وطن واحد ومستقبل مشترك.

