تحوّلت القضية الفلسطينية في العقود الأخيرة، من قضية تحرر وكرامة إلى “ماركة سياسية” تلوّح بها أنظمة وأطراف كلما أرادت تحسين صورتها أو حشد التأييد، دون أن تقدّم شيئًا فعليًا على الأرض. آخر تجليات هذا العبث، ما شهدته القافلة “التضامنية” المتوجهة إلى غزة، والتي استُبعد منها المشاركون المغاربة، في خطوة فاضحة ومقصودة، رغم أنهم استوفوا جميع الإجراءات القانونية، بما فيها التأشيرات وتنسيق السفر عبر الأراضي المصرية.
فقد منعت السلطات المصرية دخول عشرات المغاربة المشاركين في القافلة، وتم ترحيل العديد منهم مباشرة من مطار القاهرة، فيما اختفى أثر البعض الآخر داخل المعابر أو جرى احتجازهم لساعات طويلة دون توضيح. ولم يتوقف الأمر عند المنع فقط، بل تعرّض المشاركون الذين تمكنوا من دخول مصر لهجمات عنيفة من طرف مجموعات وُصفت بأنها “بلطجية”، استخدمت الهراوات وخراطيم المياه لتفريقهم، في مشهد أشبه بكمين أمني لا بمبادرة إنسانية.
اللافت أن هذه القافلة لم تكن سوى استعراض ميداني مقصود، هدفه تسويق البطولة، لا دعم غزة فعليًا. من يُقصي المغاربة – الذين لطالما شكّلوا صوتًا عربيًا حيًا في دعم فلسطين – لا يمكنه أن يدّعي النقاء في النوايا. بل أكثر من ذلك، ما حدث يكشف كيف أصبحت فلسطين أداة في يد البعض، يوزعون من خلالها صكوك الشرف، ويحوّلون التضامن الشعبي إلى عرض سياسي مفبرك.
لكن لنتحدث بلغة الواقع لا الشعارات. ما الذي يمكن لقافلة مدنية أن تُقدمه لغزة المحاصرة؟ هل سيرفع عن كاهلها القصف، أو يوقف المجازر، أو يمنع تجويع الأطفال؟ التضامن الحقيقي لا يُقاس بعدد الأمتار التي يقطعها المتضامنون، بل بمدى استعداد الدول – التي ترعى مثل هذه القوافل – لتحدي الكيان الصهيوني ميدانيًا، لا إعلاميًا.
إذا كانت هذه الأنظمة – التي تدفع بمواطنيها إلى المعابر – جادة فعلًا في دعم فلسطين، لكان أولى بها أن ترسل جيوشها بدل مواكبها، وأن تواجه الاحتلال بالقوة لا بالبيانات. فالتاريخ علمنا أن القضايا الكبرى لا تُحلّ إلا بإرادة حقيقية، وتكلفة حقيقية، وأن قوافل “الفرجة” لا تُسقط طائرات “إف 16″، ولا تكسر حصارًا مضروبًا منذ عقود.
وإن كان ثمة شعب لا يحتاج إلى من يُمنّ عليه بشرف التضامن، فهو الشعب المغربي. فباب المغاربة، ذلك المعلم الراسخ في قلب القدس، ليس مجرّد اسم، بل شاهد حجري حيّ على التضحيات التي بذلها المغاربة دفاعًا عن أولى القبلتين. إنه رمز لوجود تاريخي لا يمكن لأحد محوه أو مصادرته، ودليل على أن علاقة المغاربة بفلسطين لم تبدأ مع القوافل، ولن تنتهي عندها.
وها هي القافلة، بعد أن استنفدت رصيدها الإعلامي، تعود أدراجها وسط التصفيق، بينما غزة لا تزال تتضور جوعًا، وتكابد الجراح، وتنتظر فعلًا لا صورة، وشريانًا لا شعارًا. المفارقة مؤلمة: الضجيج كان عابرًا، والجوع باقٍ. لقد عادوا بالكاميرات واللافتات، لكن لم يعد أحد بالحليب أو الدواء أو الأمل.
إننا اليوم أمام مأساة مزدوجة: مأساة أهل غزة، ومأساة من يحوّلون دماءهم إلى مناسبة للاستعراض. وفلسطين، التي لا تزال تقاوم وحيدة، لا تحتاج أبطال صور، بل تحتاج إلى مواقف حقيقية، وقوة فعل، وإرادة لا تساوم. أما من أقصى أبناء المغرب من قافلته، فليعلم أن المغاربة لا يحتاجون إذنًا ليتضامنوا مع فلسطين، ولا بوابة عبور ليكتبوا التاريخ.