تحوّلت قضية هشام جيراندو من مجرد حادثة ابتزاز إعلامي إلى نقطة مفصلية في فهم طبيعة شبكات التضليل التي تنخر الفضاء العمومي المغربي، وتعيد طرح أسئلة قديمة عن علاقات خفية تجمع بين الفاعل السياسي السابق إلياس العماري ووجوه أخرى ظلّت لسنوات تتقن فنّ التواري خلف الستار.
فما كُشف في التسريبات الأخيرة، المنسوبة للراحل مصطفى عزيز، لم يكن مجرّد كلام عابر، بل مشهد متكامل الأركان يفضح طبيعة التحالفات التي بُنيت على الكذب والتشهير والتمويل المشبوه. إلياس العماري، الذي غاب عن الواجهة منذ سنوات، ظهر فجأة كـ«مخرج رئيسي» لحملات التشويه، ينسّق مع جيراندو يوميًا، ويمنحه التعليمات والعبارات والضربات الإعلامية، فيما تولى آخرون، مثل مهدي حيجاوي وسعيد شعو، ضمان التدفق المالي من الخارج.
هذه المنظومة لم تكن لتشتغل لو لم تجد بيئة سياسية رمادية، تتسامح في فترات سابقة مع الخطاب المسموم، وتفتح المجال أمام متسللين إلى الفضاء العمومي، لا يملكون من المهنية شيئًا سوى القدرة على الصراخ الرقمي وبث الشكوك.
لكن السؤال الأخطر اليوم هو: لماذا لم تُفتح إلى حد الآن ملفات من كانوا في قلب هذه الشبكة؟
فبينما صدر حكم غيابي بسجن هشام جيراندو 15 سنة، ظل باقي المتورطين خارج المساءلة، وكأن الأمر يخص «فردًا شاذًا» لا منظومة ابتزاز محكمة التنظيم.
إن الاستمرار في التعامل مع هذا الملف بانتقائية أو تساهل، لا يخدم سوى من ينتظرون الفرصة لإعادة إنتاج نفس الفوضى تحت أسماء جديدة. والمطلوب اليوم ليس فقط تتبع المسارات الجنائية، بل بناء حصانة مؤسساتية تمنع تكرار نفس السيناريو، عبر تعزيز الرقابة على تمويلات الحملات الرقمية، والتصدي بكل حزم لثقافة الإفلات من العقاب.
قضية جيراندو ليست حادثًا معزولًا. إنها مرآة عاكسة لتحالفات مضادة ، تشتغل من الهامش، وتستغل ثغرات في المشهد الإعلامي والسياسي. وإذا لم يُقطع معها جذريًا، فستظل تهدد كل مكسب ديمقراطي حقيقي، مهما كان هشًّا أو جنينيًّا.