كانت الساعة تشير إلى الثالثة بعد الزوال عندما نزل صابر من سيارته بباب المدشر. وبعد أن ركنها بمكان آمن، أخذ حقيبته وتوغل داخل أزقته الضيقة والملتوية التي لا تسمح بمرور السيارات بسهولة، في اتجاه بيت العائلة.كانت السماء صافية والجو عتدل مما يدل على أن المدشر قد ودع فصل الشتاء واستقبل فصل الربيع.
صابر شاب من أبناء المدشر الأوفياءالناجحين دراسيا ومهنيا؛ كان يشتغل موظفا بإحدى الإدارات بالمدينة. حبه ووفاؤه لمدشره جعلاه لا يغيب عنه، وذلك بعدم تفويت أية فرصة أتيحت له لزيارته. وهو في طريقه إلى بيته، أحس بأن شيئا غير عادي يخيم على المدشر! كانت الأزقة فارغة، وأبواب المنازل موصدة، كما لو كانت صفارات الإنذار قد أعلنت عن اندلاع حرب! وما زاد من اندهاشه، هو عدم وجود أية امرأة أو فتاة بالسقاية الوحيدة والمتمركزة وسط المدشر كما هو الحال في سائر الأيام، مع أنها كانت المصدر الوحيد لتزويد السكان بالماء الصالح للشرب.
وعندما اقترب من البيت، بلغ إلى مسمعه صوت مدو ، يخترق الأزقة ويهزالجدران :إنه صوت حسن. كان رابضا بالقرب من بيت أبي صابر بقامته القصيرة، وجسمه الممتلئ، ووجهه المكتنز المستدير يصرخ كثور هائج. كان ماسكا بيده قطعة حديد حادة وهو يسب ويتوعد بالانتقام لنفسه من الجميع كأن كل سكان المدشر أعداؤه أو آكلوا حقه! وفي تلك اللحظة بالذات أيقن صابر من أن سبب خلاء المدشر من الناس، هو خوفهم من حسن.
إنه شاب في مقتبل العمر، يناهز الثمانية والعشرين سنة من عمره، فقير، وبحياته ما جلس على كرسي وحول طاولة أمام أستاذ! ينتمي إلى عائلة فقيرة، تبنت العنف كسلوك يومي ومشروع في نظرها! وبما أن حسن من ذلك الوسط، أصبح الممارس الأول، والمتقن البارع للعنف في العائلة. لا منطق لديه في الحياة، سوى منطق العنف. دائما تسبقه يده لقول ما يريد التعبير عنه بلسانه!
دهش صابر لحال حسن، فأشفق عليه! لكن كيف السبيل إلى بيته وهو رابض ببابه والشر ينط من عينيه؟ وجد نفسه في مواجهة مباشرة معه، فتقدم نحوه متباطئا ثقيل الخطو. وكسائر البشر، زاره الخوف في البداية، ثم بعد ذلك حسم أمره وهم بأن يقترب منه، فاقتعد حجرة مصفحة بجانب الباب ودعاه للقعود جنبه: ـ كيف حالك يا حسن؟ تعال.. تعال واجلس إلى جانبي! أدخل صابر يده في جيبه، وأخرج علبة سجائر ، ثم سأله بلطف: ـ أتريد سيجارة يا حسن؟ خذ.. خذ ولا تستحي..! ثم أنشأ يقول دون منحه فرصة الرد:
ـ أتعرف يا حسن؟ غريب أمر هذه الدنيا! فكما يقول المثل:(كايعطي ربي الفول غير للي ما عندو سنان) كم واحدا يضع كفه فوق لحيته ويعتبر نفسه رجلا، وهو في الواقع أجبن من أرنب! لولا الحظ الذي أسعفه ولعب لصالحه! ولكن الناس أغبياء..! لا يفهمون..! ولا يقدرون قيمة الرجال! أنت مثلا.. مكانك ليس هنا.. أنت رجل شهم وشجاع.. أتعرف أين مكانك؟ مكانك في فلسطين! رجل في مثل قوتك، وشجاعتك، وطيبة قلبك، لا يمكن أن يكون إلا في فلسطين ليحارب العدو الصهيوني..! لو وجد في فلسطين مجرد ألف رجل في مثل قوتك ، ونبل أخلاقك، لقلنا على اليهود السلام…!
لقد أراح الحوار حسنا، فتسربت كلمات صابر عبر مسامه، وسرت في عروقه كبلسم شاف، فوهن هيجانه، وهدأت نفسيته،ألقى كل ما بيده أرضا وأصبح كحمل وديع، ينظر بعينين لامعتين تشع منهما براءة كبراءة الأطفال، في كل الاتجاهات ثم قال في هدوء بالغ:
ـ أرأيت أخي صابر؟! أنا محتقر في هذا المدشر.. كلهم يقولون نفس الشيء..!
ـ ماذا يقولون؟
ـ يقولون بأنني لا أصلح لشيء…
ـ من يقول ذلك..؟ هم من لا يصلحون لشيء.. أما أنت فتصلح لكل شيء.. المهم ..إهدإ الآن، وأتمم سيجارتك ثم عد إلى حال سبيلك، ولا تفكر في شيء..!
ـ حاضر أخي صابر.. لن أفعل إلا ما يرضيك..!
عاد حسن إلى بيته، بعد أن هدأ صابر من روعه، ولازمه طيلة الليل حتى الصباح. ومنذ ذلك اليوم وهو يحب صابرا حبا جما. كان دائما يسأل عنه وينتظر عودته إلى المدشر بفارغ الصبر؛ يحب حديثه وطريقته في تناول مواضيعه. لم يكن يحس بمروءته وبإنسانيته إلا في حضوره، فصار صابر كبرشام فعال لتهدئة أعصابه، وكدواء مفيد لتسكين آلامه! وفي كل مرة كانت تزوره النوبة ويهيج، لا يخمد لهيب ناره إلا حضور صابر، أو على الأقل ذكر اسمه أمامه!
وفي يوم طلعت في رأسه فكرة الزواج والأولاد والمستقبل، وقرر أن يكمل دينه، فاختار لنفسه فتاة لا تقل عنه أمية وفقرا من إحدى القرى المجاورة ثم تزوجها! جاء بها للعيش في بيت العائلة، وبذلك ازداد البيت خلافا وصراخا وعنفا. لم يقدر الأمور خير تقدير، إذ ظن بأن الزواج مجرد لعبة مسلية أو شيء مكمل للشخصية، كتدخين السجائر أوشرب الخمر..! كانت صدمة مسؤولية الإنفاق على نفسه وعلى زوجته شديدة عليه وباكتشافه للحقيقة لم يتبق لديه من حل سوى الشتم والركل والرفس…
وفي كل مرة مر بالقرب من السقاية، ورأى النساء والفتيات يرتدين ثيابا جديدة وأنيقة، يتغير حاله، ولم يعد يشعر بنفسه إلا وهو في البيت يصدر أمره المطاع:
يا حياة.. لماذا لا ترتدين فستانك الجديد الذي اشتريت لك وتخرجي إلى السقاية لتجلبي لنا الماء؟ ألا تلاحظين بأنني أكاد أموت عطشا…؟!