
في عمق إقليم صفرو، وبين تضاريس جبلية تفصل بين تازة والخميسات، يتكشف مشهد يومي يختزل معاناة سكان صنهاجة. هنا، حيث تنتصب وحدات إنتاج الجير التقليدية، أو ما يعرف محليا بـ”الكوشات”، تتحول الحياة إلى معركة يومية ضد الدخان، بين من يسعى إلى حماية صحته ومن لا يملك سوى العمل وسط اللهيب لضمان قوت يومه.
منذ الفجر، تتصاعد أعمدة الدخان السوداء، تحجب ضوء الشمس وتغمر البيوت بروائح خانقة. يحاول السكان إغلاق النوافذ وسد الشقوق، لكن الغازات السامة تتسرب إلى الداخل، تلوث المفروشات والمياه، وتترك بصمتها على كل شيء. الأطفال يستيقظون بأعين دامعة، والكبار يختنقون بسعال مزمن، فيما تحولت الأمراض التنفسية إلى واقع مألوف في كل بيت.
وسط هذه الأجواء الثقيلة، يروي عامل شاب يومياته قائلا: “نبدأ العمل قبل شروق الشمس ونبقى ساعات طويلة أمام النار والدخان. لا وسائل وقاية، لا كمامات ولا قفازات. نعلم أن الدخان يفتك بنا، لكن البطالة أكثر قسوة.” شهادته تختصر مأساة جيل كامل يجد نفسه محاصرا بين المرض والجوع.
لكن الجانب الآخر من القصة يكشف عن قلق أصحاب الكوشات الذين يرون فيها مصدر رزق وحيد. يقول أحدهم: “هذه الكوشة تعيل عائلتي وتشغل عددا من الشباب. إذا أغلقوها سنجد أنفسنا بلا عمل. لا نرفض التحسين، فقط نريد دعما لنصبح أقل تلويثا، أو نقلنا بعيدا عن السكان.”
أصوات المجتمع المدني بدورها تعتبر أن القضية أعقد من مجرد ملف بيئي. فهي تعكس واقعا اجتماعيا واقتصاديا هشا، حيث يمتزج التلوث بالفقر، والهوية المحلية بحاجة الناس بالضرورات البيئية. الإغلاق المفاجئ ليس حلا، كما أن الصمت عن الأضرار الصحية جريمة مؤجلة.
في صنهاجة، الجير ليس مجرد صناعة؛ هو شريان حياة يربط السكان بأرضهم، لكنه في الوقت نفسه يزرع المرض في صدورهم. وبين نار الكوشات ونار الحاجة، تظل صنهاجة شاهدا على معادلة صعبة، تنتظر سياسة وطنية عادلة توازن بين التنمية المستدامة وحق الناس في بيئة سليمة ولقمة عيش كريمة.