ما هو السبب؟ أهو الفقر، أم الجهل، أم هما معا؟ أهو ضيق الخاطر وعدم وجود القدرة على التحمل؟ أم هو المزج بين الجد والمزاح الذي لا يترك مكانا للصلاح…؟
ـ الناسْ حْماقت الله يحضر السلامة.. مابقات حتى شي حاجة كتفرّح فهادْ الدنيا.. ما تسمع غير المصائب والكوارث الله يستر..!
هكذا اقتحم علي “مخْبِرٌ” خلوتي، وأضاع جلسة تأملي التي اعتدت القيام بها طيلة شهر رمضان الأبرك بعد صلاة المغرب وتناول الفطور. كان إبريق الشاي مايزال أمامي فوق الطاولة بإحدى مقاهي المدينة دون أن أرشف منه رشفة واحدة. تطلعت إليه بتقزز وعتاب وهو يتكلم بدون هوادة كأحمق، وقد برزت عيناه واصفر وجهه ووقف شعر لحيته كأشواك قنفذ! ثم سألته في هدوء:
ـ ما بك هجمت علي كزلزال مدمّر؟ ألا تحترم خصوصيات الآخرين؟ إني في جلسة تأمل..!
وأجابني في سخرية: ـ الله يجيبك على خير أسّي عبد الرزاق..! أنت تعيش في عالمك لوحدك.. أنت فين والناس فين؟! هذا ليس كلامي لوحدي.. إنه كلام كل الناس في كل المقاهي والشوارع والأزقة والمساجد والمنازل…
بدأ الخوف يدب إلى دواخلي كسُمّ أفعى صحراوية؛ وآنذاك تأكدت من أن الأمر جاد وبأن مصيبة قد حدثت فعلا. التقطت أنفاسي وجمعت أطرافي ورفعت رأسي مستوضحا بصوت منخفظ مليء بالتحفظ:
ـ أيمكنك أن تشرح لي بالتفصيل الممل ما حدث؟
أجابني بصوت عال وخشن كأنه يلومني على جهلي لما حدث:
ـ ادريس أصاحبي..! ادريس العسكري..!
ـ ماذا حدث لهذا الإدريس؟ انطق وخلصني الله يحفظك.. إن روحي على وشك أن تطلع..!
ـ ادريس قتل المهدي ولد السعداوي!
ـ أعوذ بالله..! قتله؟! أوصلت إلى حد القتل؟ كيف؟ وأين؟ ولماذا؟
ادريس والمهدي شابان في عقدهما الثالث. الأول جندي، متزوج من امرأتين وله أطفال، والثاني على باب الله مياوم وأعزب. قال “مخبر” وهو في حالة تأثر بالغة: ـ سأحكي لك حكايتهما مثل خرافة: “ذات يوم، كان ادريس العسكري والمهدي بمقهى الحاج المدني، فاندلع بينهما هذار فاق حد المزاح؛ وبكلمة من هذا وأخرى من ذاك، تطورت الأمور بينهما إلى ملاسنات لاذعة ومشادات كلامية نافذة. لقد أخذ كل واحد منهما يدفع الآخر ويستفزه إلى أن بدا شجارا عنيفا على الأبواب. وبدفعة قوية لا إرادية من المهدي، سقط ادريس على الأرض؛ فانكسرت يده.
وبالكاد تمكنت من مقاطعته عن الكلام، ومخبر مسترسل بلهفة كصنبور معطل، كلما أردت حصر مائه، لا يزداد صبيبه إلا تدفقا وقوة، فسألته مستفسرا:
ـ مهلا ، مهلا يا مخبر! كيف هي ظروف ادريس هذا الاجتماعية؟
ـ إنه مذمّر.. غارق في المشاكل من الرأس حتى القدمين، فبالإضافة إلى أنه مدمن على تناول المخدرات وشرب الخمر، فهو لا يبرح المحكمة بسبب المشاكل العديدة مع زوجتيه. أما راتبه الشهري، فلا يتبقى لديه منه إلا القليل على إثر الاقتطاعات والديون التي تراكمت عليه كأكوام تراب.
وقلت في تذمر:
ـ أعوذ بالله..! ما هذه بحياة..! أكمل، أكمل.
ـ لما تكسرت يد ادريس، اشتكاه إلى رجال الدرك في أفق متابعته في المحكمة، لكن أطرافا أخرى تدخلت بخيط أبيض، ووقع الصلح والتسامح بينهما بشرط أن يدفع والد المهدي مبلغا ماليا كتعويض لادريس على الأضرار التي لحقت به بالرغم من أنه هو المعتدي حسب أقوال بعض الشهود. وبتوالي الأيام والشهور، لم يف والد المهدي بوعده ولم يدفع لادريس ولو درهما واحدا من المبلغ المتفق عليه، فامتلأ هذا الأخير حقدا وضغينة، وبدأ الانتقام ينمو وينضج بداخله كجنين بلغ شهره التاسع داخل أحشاء أمه وآن له أن يرى النور. أصبح لا ينام ولا يفيق ولا يأكل إلا وهو يفكر بالمهدي، فأدخله في أجندته وأصبح بالنسبة إليه في عداد الموتى!
وعند سماعي لهذا الكلام، كان علي أن أستوقف مخبرا وأسأله:
ـ صحيح..! لماذا لم يف أب المهدي بوعده ويدفع لإدريس؟
هز مخبر رأسه ونظر إلي بحسرة، ثم قال وهو يلوح بيديه وقد تغيرت تقاسيم وجهه وشكل شفتيه:
ـ قبح الله الفقر أسي عبد الرزاق. الرجل متقاعد ومعاشه لا يتعدى ألف وأربمعمائة درهم في الشهر، المصاريف كثيرة، والوقت صعب.. أما الباقي فإنك تعرفه.
أبديت تعاطفي في الأول، ثم تفطنت إلى مسألة، فحزمت أمري وتنحنحت وقلت:
ـ ولو.. وإن يكن.. الرجال عند أقوالهم.. كان يجب عليه أن..!
ثم عاودني الإحساس بالشك والحيرة ولم أعرف أين أضع نفسي؟ أبموضع المتعاطف أم اللائم؟! لكنني تركت الحيرة والقرار جانباوعدت لمخبر أحثه على متابعة حكيه لقصة ادريس والمهدي، وبدوره تابع الحكي بدون توقف كحبيب التقى حبيبته بعد هجر طويل:
ـ ومنذ ذلك اليوم وهو يتربص ويتحين أية فرصة لاصطياده مثل قط يأخذ كل الأوضاع للفوز بفأره. تصور أن بلغ به إصراره على الانتقام حد اختبائه قرب مرتفع تمر من تحته طريق، ولما كان مارا، ألقى عليه بحجرة تزن عشرات الكيلوغرامات، لولا أن الله نجاه بأعجوبة! أما الأخطر، فهو ما حصل اليوم. لقد ظهر له في نفس المكان حاملا سيفا حادا بيده، وقد كان الظلام يملأ الأعين، وانطلق يهوي عليه بكل قوته والمسكين يصرخ دون أن يسمعه أحد ويهب لنجدته. لقد شوه جسمه، وكان على وشك قطع يديه بالضربات والطعنات، وفي الأخير ألقى به من حفرة ورحل. بقي المهدي لوحده يواجه شبح الموت والدم ينزف منه بكل غزارة كسيل لا ينقطع؛ وبأعجوبة، ولا أحد يدري كيف تمكن من التسلق إلى الأعلى ليرتمي على الأرض في الطريق وهو عاجز لا يقوى على الحركة. وبالصدفة وصل بعض الأشخاص، فوجدوه على تلك الحالة، وأخبروا أهله الذين بدورهم أخبروا رجال الدرك وسيارة الإسعاف التي نقل على متنها إلى المستشفى. لكن وللأسف الشديد، لفظ أنفاسه الأخيرة قبل وصوله إليه.
ـ وهل أنت متأكد أن ادريس هو الذي قتله؟
ـ جاء على لسان الأشخاص الذين عثروا عليه مرميا في الطريق أنه نطق باسمه وأخبرهم بأنه هو من ضربه.. أما العلم الحقيقي، فعند الله.. لكن الموقف المؤثر أكثر والذي لا أحد يقدر على مشاهدته، هو حالة والده. ان المسكين يبكي كطفل. يلطم خديه، يضرب رأسه مع الأرض، ويولول: “ياويلي..!أنا السبب.. أنا السبب.. أنا الذي دفعته إلى الموت بحمايته من السجن.. ياليتني حميته فعلا.. آه، لو دفعت لهذا الكلب المسعور نقوده، لكان ابني حي يرزق الآن.. لكن قبح الله الفقر، قبح الله الفقر..!”
تأثرت كثيرا لهذا الموقف المشحون بالحزن والأسى والحسرة، ثم قلت لمخبر بصوت تعج نبراته بالحزن:
ـ والله العظيم حرام! حرام قتل شاب في مقتبل العمر.. مسكين والده، لقد حدث له ما حدث للقلاق الذي أراد تقبيل صغيره، وبمنقاره فقأ عينيه..! اللهم احفظنا واحفظ أبناءنا من شر أنفسنا ومن شر الآخرين يا أرحم الراحمين، ويا رب العالمين. آمين.