Site icon جريدة صفرو بريس

تونس: من شعلة الربيع إلى ظل القمع… حين تُختطف الديمقراطية باسم “الإصلاح”

كانت تونس ذات يوم رمزًا للأمل في التحول الديمقراطي في العالم العربي. فمنها انطلقت شرارة الربيع العربي عام 2011، وبها وُلد دستور تقدمي يُضاهي أعرق الديمقراطيات، وانتُخبت مؤسسات مدنية تداولت على السلطة بسلاسة. لكن تلك الصورة لم تعد قائمة. فما بين يوليو 2021 ويونيو 2025، تغيّر وجه تونس بشكل دراماتيكي. أصبح الحديث عن الحريات السياسية اليوم، في هذا البلد الذي كان يُضرب به المثل، حديثاً عن التراجع، التضييق، والملاحقة.

منذ أن قرر الرئيس قيس سعيّد حلّ البرلمان وتعليق العمل بالدستور، بدأ مسار انفرادي لم يَزِد إلا تصعيدًا. أُقر دستور جديد في 2022 يوسّع صلاحيات الرئيس بشكل شبه مطلق، ويقلص من دور البرلمان والقضاء. ثم جاءت موجة الاعتقالات السياسية لتؤكد أن النظام لم يكتفِ بتفكيك المؤسسات، بل يسعى إلى إسكات كل صوت معارض، سواء أكان سياسياً أو إعلامياً أو نقابياً.

في العامين الأخيرين، طالت الملاحقات القضائية العشرات من رموز المعارضة، من بينهم زعماء سياسيون بارزون مثل راشد الغنوشي وعبير موسي، وصحفيون مثل صبحي عتيق، وأكاديميون ومدافعون عن حقوق الإنسان. كثير منهم يُحاكمون بتهم مبهمة مثل “المس بأمن الدولة” أو “نشر أخبار كاذبة”، بينما تُستعمل القوانين الاستثنائية مثل مرسوم 54 لمحاصرة الصحافة ومنصات التعبير.

أما النقابات، وخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي كان قوة توازن تاريخية، فقد أصبح بدوره عرضةً للتهميش والتضييق. احتجاجات العمال والمعلمين وموظفي الصحة تقابل بالمنع، بينما يُمنع تنظيم الاعتصامات وتُلاحق تنسيقيات شبابية بتهم التنظيم غير المرخص. حتى التجمعات السلمية المناهضة لسياسات الدولة أصبحت تجد نفسها تحت رقابة أمنية لصيقة، تصل حدّ الاعتقالات الفورية.

ورغم هذا المشهد القاتم، لا يزال الشارع التونسي يقاوم. خرج آلاف المحتجين في مارس وأبريل 2025 في مظاهرات تطالب بإطلاق سراح السجناء السياسيين، والدعوة لعودة الحوار الوطني، لكن الرد كان بإنزال أمني كثيف، واستخدام القضاء لترهيب النشطاء.

منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية حذّرت من “الانجراف السلطوي” في تونس، بينما أبدى الاتحاد الأوروبي تحفظات واضحة تجاه تمويل مشاريع الدولة، خصوصاً بعد توثيق انتهاكات ضد المهاجرين الأفارقة وضد المحتجين السلميين.

في ظل هذا الواقع، يتساءل كثيرون: هل فقدت تونس بوصلة الحرية؟ وهل تحولت الشعارات التي نادت بـ”التطهير” إلى غطاء لقمع متجذر؟ إن الإجابة باتت واضحة: ما يجري اليوم هو تآكل تدريجي للديمقراطية باسم “إصلاح الدولة”، وهو ما لم ينتج إلا عزلة داخلية، وقلقاً دولياً، وفقدان الثقة في المسار السياسي ككل.

تونس اليوم ليست بحاجة إلى خطابات شعبوية أو استعراضات سلطوية، بل إلى عقد اجتماعي جديد يُعيد الاعتبار للديمقراطية، ويضمن حرية المواطن، ويُنهي عصر استغلال القضاء لتصفية الحسابات السياسية.

Exit mobile version