Site icon جريدة صفرو بريس

بين الأرقام والواقع.. ماذا تكشف حصيلة وزارة الداخلية عن خريطة المخدرات في المغرب؟

الأرقام التي تضمنها تقرير وزارة الداخلية لسنة 2025 حول مكافحة المخدرات ليست مجرد معطيات تقنية؛ إنها مؤشرات صريحة على حجم المعركة التي تخوضها الدولة ضد واحدة من أكثر الظواهر تعقيدا وتشعبا في المشهدين الأمني والاجتماعي. حين تتحدث الوزارة عن حجز 446 طنا من المخدرات في ثمانية أشهر فقط، فهذا يعني أن الظاهرة لم تعد هامشية، بل هي اقتصاد خفي متكامل البنية، يمتد من المزارع الجبلية إلى الموانئ والمعابر الحدودية.

من جهة أولى، يمكن قراءة هذه الأرقام على أنها دليل على نجاعة المقاربة الأمنية، فحجز هذا الكم الهائل من المواد الممنوعة وتفكيك الشبكات المرتبطة بها يبرز قوة الرصد والاستخبار وتكامل الجهود بين الأجهزة. لكن من جهة ثانية، فإن ضَخامة الكميات المحجوزة تطرح سؤالا مقلقا: إذا كانت الأجهزة تصادر مئات الأطنان، فكم من الأطنان تمر فعلا دون أن تُكتشف؟

المفارقة تكمن هنا: ارتفاع المحجوزات قد يعني نجاح المراقبة، لكنه في الآن ذاته يشير إلى اتساع سوق الاستهلاك وتغلغل الشبكات، خصوصا في ظل ظهور أنماط جديدة من المخدرات والمؤثرات العقلية المصنعة محليا أو المهربة بطرق مبتكرة.

تقرير الداخلية أشار إلى تراجع المساحات المزروعة بالقنب الهندي بنسبة 85% منذ 2003، وهو إنجاز مهم يعكس إرادة واضحة في تحويل الاقتصاد المحلي لمناطق الشمال من زراعة غير مشروعة إلى زراعات بديلة. غير أن هذا التحول، رغم أهميته، يواجه تحديا اقتصاديا واجتماعيا كبيرا: فآلاف المزارعين يجدون أنفسهم بين مطرقة القوانين الجديدة وسندان غياب بدائل مجدية، مما قد يدفع بعضهم إلى الاستمرار في النشاط السري أو التعامل مع شبكات التهريب.

كما أن تنظيم الاستعمال المشروع للقنب الهندي لأغراض طبية وصناعية خطوة استراتيجية، لكنها تتطلب منظومة دقيقة للرقابة، لأن أي خلل بسيط قد يفتح الباب أمام التسرب نحو السوق غير القانونية، وهو ما تدركه الوزارة حين تشدد على “ضمان عدم توجيه المنتوجات إلى الاستعمالات غير المشروعة”.

أما على المستوى الدولي، فإن انخراط المغرب في تحالفات وشراكات جديدة لمكافحة المخدرات يعكس تحولا في طبيعة التحدي. فالمخدرات لم تعد نشاطا محليا، بل ظاهرة عابرة للحدود تتقاطع فيها مصالح الجريمة المنظمة مع الإرهاب والتهريب الدولي، وهو ما يجعل التنسيق الاستخباراتي والدبلوماسي ركيزة أساسية في المقاربة المغربية.

ومع ذلك، تبقى المعضلة الاجتماعية هي الوجه الآخر للملف. فارتفاع عدد القضايا المرتبطة بالحيازة والاستهلاك داخل المدن، خاصة بين فئة الشباب، يعكس أزمة قيم واقتصاد وفراغ مؤسساتي، أكثر مما يعكس مجرد خرق للقانون.

في النهاية، تكشف أرقام تقرير وزارة الداخلية عن مستويين متوازيين من الواقع:
الأول أمني، يبرز صرامة الدولة وقدرتها على الضبط والمواجهة.
والثاني اجتماعي واقتصادي، يعكس هشاشة البنية التي تُغذي السوق السرية.

وبين هذين المستويين، يظل الرهان الأكبر هو الانتقال من سياسة الردع إلى سياسة الوقاية والتنمية، حيث لا يكفي تفكيك الشبكات، بل يجب تفكيك الشروط التي تجعل من زراعة وترويج المخدرات خيارا للبقاء في مناطق التهميش والبطالة.
بهذا المعنى، فإن الأرقام ليست مجرد إنجاز، بل مرآة لأزمة ممتدة لا يمكن حلها إلا عبر توازن حقيقي بين الأمن والتنمية، بين القبضة الصارمة والعقلانية الاجتماعية.

Exit mobile version