بداخل قبر صغير، وسط حيز جد محدود، اعتاد ملك الساعات أن يجلس أمام منضدة مهترئة، ملئت عن آخرها بقطع غيار صغيرة، وأدوات رفيعة، تحيط به عبر الجهات الأربع ساعات متنوعة الأشكال والأحجام.. منها مابقي ينبض بالحياة بأصوات خافتة، ومنها ما خمدت حركته نهائيا فبقي هيكلا بدون روح، معلقا على جدران متآكلة رطبة.
يضيء القاعة مصباح صغير، معلق بيد معدنية صدئة، فوق الرأس تماما.. ووسط صمت مهيب تتخلله تكات منتظمة، يشرع صديق العقارب.. المعدنية، في معالجة الأعطاب، ونظرته للأشياء تختلف عن كل الناس، عبر المجهر الصغير الذي تمسكه حدقتاه الغائرتان بإحكام..
اعتاد صاحب الدكان أن يصطف الزبناء خلف بابه الصغير وهم يتدافعون، وكلهم شوق لمعرفة آخر التطورات حول ساعاتهم، كأنه بداخل حجرة إنعاش مكشوفة.. منهم من ظل أرقا الليل بطوله في انتظار الصباح، أملا أن يمتد إلى عطب ساعته الإصلاح.. ومنهم من كان يسلمه الساعة ـ كمن جاء بفلذة كبده ـ ينتظر ساعات طويلة، مسمرا أمام الدكان واقفا أو جالسا القرفصاء، منتظرا الفرج.. كان ملكا متوجا، يقصده القريب والبعيد، أما يوم السوق الأسبوعي فيكون حافلا، وغالبا ما كانت زوجته تحرم من إطلالته في الغذاء، إذ لم يكن الجمهورالكثيف الواقف ببابه ليتركه للحظة واحدة..
اليوم يجلس ملك الوقت خلف منضدته الكئيبة، وقد بدا واضحا أنه أصبح خارج حسابات الزمن. أدرك ولو بعد فوات الأوان أنه لم يعد ملكا، وأن الوقت الذي ظن طوال الوقت أنه يتحكم فيه ، أصبح خارج حساباته الدقيقة.. ينظر بين الفينة والأخرى نحو الباب الجامد، فلا جديد يذكر، ولا شيء يلوح في الأفق. أصبح الزمان يدار بآلات أخرى غير التي كان يتحكم فيها. أسف كثيرا أنه لم يطور إمكانياته ليظل مواكبا للآلات الجديدة، وأحنقه أن تمتلئ الأسواق بسلع رديئة، رخيصة، لاقيمة لها بعد تعطلها، ولا تحتاج إلى إصلاح! بل يستغنى عنها وتعوض بغيرها.. أصبح أخيرا ينظر إلى الأشياء بمقاسها الطبيعي، وبأبعادها الحقيقية بعد أن نزع المكبر الدقيق عن حدقتيه.. ومع تغير نظرته لما حوله ، أصبح كل شيء صغيرا في نظره…