Site icon جريدة صفرو بريس

الفساد عدو المواطنة ويصادر حق الانتماء للوطن

لا يقصد هنا الاحساس بالانتماء الى الوطن كجغرافيا ولكن يجدر الحديث في هذا المقام عن الانتماء الى الوطن في تركيبته النسقية وتمثلات التجاوب مع الحقوق والواجبات المتضمنة في الدستور في مقابل وجود فساد إداري مستشري في المجتمع، والذي كرس جزء منه النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر توالي الحكومات، فتراكم معه وتأصلت قناعات براديكم الفساد، وعدم إتباع نظام الشفافية ورفض إعمال المحاسبة والمساءلة الذاتية، وتكونت لديه بيئة خصبة لاحتضانه ورعايته، بل وأصبح الفساد من المظاهر العامة المسلم بها في المجتمع سواء تعلق الأمر بقناعة الفرد الذي أصبح يؤمن بالمعاملات غير الأخلاقية أو قناعة المسؤول الذي يخالف قواعد المسؤولية بدوافع شخصية، وأصبح الفساد مؤشر جد مؤثر على الاحساس بالانتماء للوطن من خلال رصد التقارير التي تعنى بقياس شفافية عمل المؤسسات والأنظمة والحكومات. فاتساع رقعة الفساد وشموله جل القطاعات الحكومية يثير نقاشا وجدالا حول الغاية من وجود الدولة والقانون والادارة. وأصبح الفساد الاداري موضوع اهتمام كثير من الباحثين والرأي العام بسبب النقاش الذي يحيط بأهمية وقيمة الحقوق والحريات التي أصبحت تباع على مرأى ومسمع الجميع، وما يخلفه ذلك من آثار سلبية على الحياة الفردية الإدارية والاجتماعية للمواطنين في البلدان التي تفشى فيها الفساد واستهدفت فيها الثقة في المؤسسات والنظم والحياة بصفة عامة، نظرا لما لذلك من علاقة بخيانة الأمانة، الشيء الذي ينذر بتعميق الاختلالات الاجتماعية، رغم تنويع أطروحات تطويق الفساد الإداري وفقا لتصور النموذج التنموي وتفكيك مختلف الانساق وفق مقاربات جدلية طبقا لحقول معرفية مختلفة، كعلم السياسة وعلم الادارة وعلم الاجتماع. فالفساد الإداري يعد مساسا بالمسؤولية القانونية وبمصداقية الإدارة التي تمثل قناة الربط بين المسؤول والموظفين وبين السلطات الحكومية والمواطنين. ويتمثل الفساد من خلال التصرفات غير القانونية لبعض المسؤولين والتعقيدات البيروقراطية والاجتهاد القانوني والمسطري المغرض إضافة الى جريمة الرشوة وأخطاء مسؤولي القطاع العام المؤدية إلى فقدان الثقة في المؤسسات، نتيجة عدم تحقيق الأهداف التي وجد من أجلها التنظيم الاداري، لاسيما الانتقاص من الخدمات العامة الأساسية تجاه الشعب أو شخصنتها. فالفساد يعكس تعمد بعض المسؤولين تحريف القانون عن مجراه، أو عدم أهليتهم للقيام بالمهام المنوطة بهم بحكم تدنى مستوى التزامهم بأخلاقيات تدبير المرافق العمومية، فينساقون وراء المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة، كما يبدعون في المحسوبية على حساب الالتزام بالشفافية، وعليه يرتبط الفساد الإداري بفساد عقلية المسؤول الذي يحتمي بالفاعل السياسي والرؤساء الاداريين الأعلى درجة الذين يعتبرون السبب الرئيسي لفقدان الاحساس بالانتماء للوطن.
وترتبط ملة الفساد والاحساس بالاغتراب كوجهين لعملة واحدة بتدني قيمة مبادئ الانتماء للوطن، حيث اتسعت الهوة بين المؤمنين بالقواعد الأخلاقية والكافرين بها، فاستعصى إمكانية فرضها وإلزامها بطريقة قطعية ومراقبتها لدى المسؤولين، لذا لم يعد الأفراد جميعهم يعتقدون في القواعد الأخلاقية، إضافة الى أن الايمان بالقانون لم يعد له أية قيمة، والمؤمن به لا ينال أي جزاء، بينما المأمورين بتطبيقه وتنفيذه يبحثون فيه عن الهفوات لتجنب تنزيله بشكل صحيح وتحقيق الغاية من وجوده، بل حتى سوء تدبير الزمن الاداري ساعد على تعطيل الحقوق وتحريف المساطر وجوهر القاعدة القانونية عن مسارها، وأثر على المردودية الادارية، وأصبح الفساد الإداري نشاطا إداريا سيئا يختلف مستواه باختلاف درجة إبعاد الأخلاق الادارية من إدارة الى أخرى ومن مجتمع إلى آخر.
فاذا كان القانون يمنح للمسؤول سلطة ونفوذا في نطاق اختصاص معين، فان تلك السلطة تبقى أمانة على عاتقه، وعليه أن يؤديها على الوجه الأكمل الذي يحقق به من خلالها المصلحة العامة، دون تحقيق أية مصلحة لنفسه أو لعائلته ومقربيه..، وإلا يكون قد دخل خانة خيانة الأمانة، واستغلال السلطة لتحقيق مصلحته الخاصة، كأن يجني عوائد مالية أو يبني علاقات نفعية بسبب الخدمات الادارية غير المستحقة التي يقدمها بعد تحريف تطبيق القانون عن مقاصده، كأن يجني فوائد غير مباشرة لنفسه أو لغيره بعدما يغير الأوامر المقررة في القانون من قبل الرؤساء ضاربا عرض الحائط الانتماء للجسم الاداري وكل القيم الاخلاقية التي هي عبارة عن ضوابط تحكم تصرف الشخص المسؤول باعتباره صوابا أو خطأ اداريا.
فالفساد المتفشي داخل الأجهزة الإدارية له أشكال عديدة لها علاقة بالممارسات السيئة المتراكمة في المجتمع وانتقلت الى الإدارة كالرشوة وعلاقات القرابة والوساطة والصداقة والعلاقات السياسية التي تؤثر على الخدمات الادارية وتحولها الى أهداف غير مشروعة.
فمن عوامل الفساد تصدع العلاقة بين الرؤساء والمرؤوسين والتنصل من الالتزام بأوامر وتعليمات الرؤساء التي يحكمها التسلسل الإداري وهرمية السلطة الإدارية الرئاسية في الدولة، كما يتبين ذلك من خلال القرارات والمذكرات، أو المنشورات، أو الدوريات.. كما أن التعيين بالمرسوم الحكومي يخلق نوعا من الاحساس بالاستقلالية عن الرؤساء فيخلق صراعا بين المسؤولين لكونهم معينين بنفس الطريقة، كما يباعد وجهات النظر وطريقة التسيير الاداري فيؤثر ذلك على سمعة الادارة والقطاع المعني خصوصا مع ضمان بقاء المسؤول الفاسد مدة ولايته أحيانا كثيرة.
كما أن فقدان الاحترام الواجب لعلاقة التدرج التي تنشأ بين الموظفين داخل الإدارة يزيد من ضعف المردودية الادارية، حيث ينص الفصل 17 من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية على أن كل موظف كيفما كانت وضعيته في السلم الإداري، فهو مسؤول عن المهام الموكولة إليه سواء تعلق الأمر بتنفيذ المهام أو واجب تأمين استمرارية المصلحة أو واجب الطاعة، الا أن الطاعة كركيزة أساسية في كل نظام إداري تتوقف على وجود رئيس مسؤول لا يعصى القانون، وبذلك يستحق واجب الطاعة التي بدونها تفشل السلطة الإدارية في تحقيق مهامها، فيختل نظام الإدارة ويعطل سير المرفق العام.
فالفساد الاداري بكل مظاهره يدخل ضمن جرائم القانون العام كجريمة السرقة والاختلاس والرشوة…. وهناك مظاهر الارتباط الشخصي في العمل، وجعل التنافس غير شريف بين الزملاء، وإيصال المعلومات المغلوطة إلى الرؤساء والمسؤولين. والغياب المستمر وغير المبرر عن العمل، ومظاهر العمل بالميول الشخصي وإقحام العواطف في محتوى المسؤولية ونطاق العمل.
كل هذا يؤدي إلى فقدان الثقة في موظفي ومؤسسات الدولة، ويحس المواطنين بضياع القيم الاجتماعية ويفقدون الثقة والاطمئنان للحكومة وزوال هيبة القانون من نفوسهم، ومنه فقدانهم للثقة بنفسهم بسبب تباعد عمل المسؤولين عن همومهم، بالرغم من المسؤولين يدعون أنهم من نفس الشعب وأبناء نفس الوطن. وكأنهم يؤمنون بما لا يجوز تملكه، وأن نفوسهم لم تعد صالحة للإيمان بما ترضاه كالأمل والانتماء للوطن وكل ما يسمع وما يروج له كإصلاح.
وهذه العوامل تؤثر على الأسرة والمدرسة وتمس بالسلامة العقلية والنفسية والروحية الجماعية، وتسائل الجدوى من برامج التربية كسياسة عمومية تتوخى تكييف ثقافة الافراد وملاءمتها مع توجهات الحياة العامة للدولة، وتزودهم بالحقائق والمعلومات والنظريات التي تؤطر وتوجه مشاعرهم وميولاتهم والأخلاقيات التي تؤثث لاحتياجات البيئة الاجتماعية الادارية.
ومن جهة أخرى فان غياب سلوك المسؤول المتصف بالثبات والتوافق والاطراد، والعمل بالتوقع والتنبؤ بآثار تصرفاته وسلوكه ومواقفه على البيئة والمحيط الاداريين، تجرنا للحديث عن القوانين أو النظم أو التعليمات التي يخضع لها الموظفون، فنجد النظم إما غير عادلة أو لا يراد لها التطبيق، لاسيما عندما يقوم المسؤول بعمل يقوم به مسؤول آخر من نفس الدرجة في مؤسسة شبيهة بطريقة متميزة بدعوى التعارض أو الغموض في الاختصاص مما يؤدي إلى صعوبة تحديد المسؤولية بشكل دقيق، ويسمح للمسؤولين بضمان إفلاتهم من العقاب وان فسدوا.
وعليه تطرح أسئلة حول مصداقية تمكين الدولة المسؤولين من تملك سلطة التسيير الإداري للمسؤول الفاسد؟ وحول امكانية إنهاء الزبونية في إسناد المسؤولية؟ وعن امكانية استمرار بعض المسؤولين الحكوميين في مناصبهم وإن ضبطوا متلبسين بارتكاب أعمال غير قانونية، ومستخفين بمسألة أخلاقيات الإدارة؟
إن تعاطف كبار الموظفين مع سوء إدارة بعض المسؤولين لوحدات إدارية التي يرأسونها يزيد من شكوك المواطنين في نزاهتهم، ويولد لديهم الإحساس بأنه من العسير الاستجابة لمصالحهم من دون الانخراط في الفساد، كما يولد لديهم شعور بعدم وجود أسلوب أو نظام لمحاسبة الموظف عن تصرفاته وأفعاله الفاسدة.
ومن جهة أخرى فإن شعور المواطنين بأن المصلحة الشخصية للمسؤول الإداري تعلو على مصلحة الوطن، وأن التصرفات غير الأخلاقية التي يرتكبها على مرأى ومسمع سلطات الدرجة الأعلى، بل ويستمر المسؤول طيلة فترة ولايته ينتهز كل ما يتاح له من فرص ويستفيد منها دون حسيب ولا رقيب، فإن ذلك يحبط المواطنين ويزيل الاحساس بالانتماء الحقيقي للوطن، ويدفعهم الى الامتناع عن المشاركة في الانتخابات وغيرها من مظاهر الحياة العامة، بل وتفكر الغالبية في الهجرة والهروب من البلاد.
إن دور المسؤول هو بث روح التعاون والإخاء بين جميع الموظفين وتنمية مهاراتهم باعتبار ذلك يدخل ضمن التدبير الاداري الرشيد الذي يحد من الآثار السيئة التي يحدثها تعاقب المسؤولين الفاسدين، سواء الذين الحقوا ضررا بمعنويات الموظفين أو على روح العمل الجماعي، أو بسبب ضعف أدائهم، أو الذين ثبتت في حقهم ملفات فساد.
إن الأساليب المعتمدة في تولي المناصب لا تضمن احترام القانون والقيام بالعمل المطلوب من دون بناء واختبار معارف ومبادئ المترشح وفحص اتجاهاته الفكرية والمفاهيم التي تؤطر عملية أدائه لوظيفته بفعالية، وتحمسه لإنجاح مرحلة معينة ترتبط بشكل وثيق بأبعاد الإصلاحات الوطنية.
كما أن إرسال بعض الموظفين لتلقي التدريب في الدول الغربية، والحصول على المعرفة اللازمة للتغيير أو تعديل الأنظمة الإدارية يزيد في تنمية الشعور بالاغتراب بسبب اختلاف عقلية المكونين ونظم الحياة، ويكون الرجوع إلى الدول التي تعلموا فيها أمرا واردا.
وتجدر الاشارة الى أن السلطة الأدبية والقدوة الحسنة في الإدارة من شأنهما أن يؤثرا بشكل إيجابي في سلوك المرؤوسين، إضافة الى أن الرقابة تبقى ضرورية وملزمة ومن الأفضل أن تكون مستقلة وخارجة عن تحكم الحكومة، وتهدف الى مراقبة ومحاسبة ومعاقبة كل مسؤول خالف ما فرض عليه من واجبات وحال دون تحقيق الإدارة لكل الأهداف المرسومة، وأن تكون هذه الرقابة فعالة ومقرونة بالعمل بالأهداف والإدارة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، حيث أن هدر الميزانيات عن طريق سوء تدبير الإدارة المغربية والزيادة في الإنفاق يضعف من هيبة الإدارة ما دام التسيب ثقافة مؤمنة لدى الفاسدين.
وختاما فان انشغال المواطنين والرأي العام الوطني والدولي بموضوع الرقابة الإدارية، أصبح مطلبا ملحا في ظل غياب وجود تسيب دون جزاءات رادعة تحاسب كل من خرج عن أهداف المصلحة العامة وانحرف عن مسارها، وفرض عقوبات معقولة على كل المخالفات والسلوكات الوظيفية غير الأخلاقية التي تسبب القضاء على الانتماء للوطن.

د.أحمد درداري رئيس المركز الدولي لرصد الأزمات واستشراف السياسات.

Exit mobile version