أقلام حرة

الدكتور ادريس المانع يكتب : "مبادئ الاقتصاد الإسلامي ودورها في التخفيف من آثار أزمة جائحة كورونا"

playstore

يمر العالم اليوم بأزمة وبائية لم يُشهد لها مثيل منذ عقود خلت، حيث لم يقتصر تأثيرها على صحة الإنسان فحسب، بل أثرت على كافة مناحي الحياة وبكل الدول التي طرقت أبوابها، وهذه الأزمة أطلق عليها اسم: “فيروس كورونا المستجد”.

فمنذ تفشي هذا الوباء وهو يعبث بظروف حياة الإنسان التي غيرها رأسا على عقب، وأحدث شللا في الاقتصاد العالمي نتيجة عزل الدول بعضها عن البعض، فأضعف تبعا لذلك الطلب العالمي على السلع والخدمات، وأحدث خللا في النمو الاقتصادي بكل الدول التي تراجعت نسب النمو بها خلال الربع الأول من هذا العام بأزيد من النصف، كما عمل على تعطيل عمليات الإنتاج وتوقفت معه أغلب المصانع والمعامل والمرافق، وأصاب قطاع المال والطيران والنقل والسياحة بخسائر فادحة؛ كل ذلك أثر على معيشة الناس وزاد من ارتفاع نسبة البطالة إلى أقصى حدودها مع فقدان الكثير من العمال مناصبهم (ففي الولايات المتحدة الأمريكية فُقدت مناصب الشغل بالملايين) وهذا الأمر سيتزايد ما بقي هذا الوباء، والواضح أن اقتصاديات الدول لن تتعافى قريبا.

pellencmaroc

وأمام وطأة هذا الوباء لم يبق أمام الدول إلا البحث عن الحلول الناجعة والممكنة لإنقاذ اقتصادها من الانكماش وشركاتها من الإفلاس، وتوفير أقصى سبل الحماية للإنسان في معاشه وأمنه.

من هنا يأتي التساؤل: ألا يمكن أن نجد في الإسلام الذي قام بتنظيم الجانب الاقتصادي للفرد والمجتمع على نحو متميز ركز فيه على كيفية توزيع الثروة وتنظيم الاستهلاك نموذجا للخروج من هذه الأزمة؟

إن الدين الإسلامي جاء بمنظومة متكاملة توجه النشاط الاقتصادي وتنظمه وفقا لمبادئ حية تهدف إلى إشباع الحاجات الأصلية للإنسان وضمان حد الكفاية ليحيى الناس حياة طيبة؛ ومن هذه المبادئ تحقيق التكافل الاجتماعي، وترشيد الاستهلاك والإنفاق… وهذا هو الوجه الثابت في الاقتصاد الإسلامي، أما الوجه المتغير فيه فهو إعمال الأصول والمبادئ الاقتصادية الإسلامية في مواجهة مشكلات المجتمع المتغيرة والطارئة لتحقيق كفاية الإنتاج ومتابعة تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية، وهذه بدورها كثيرة ومتنوعة لكننا سنقف عند الصكوك الإسلامية.


 

أولا: التكافل الاجتماعي

يعد التكافل الاجتماعي فريضة على كل مسلم بحسب قدرته، ذلك أنه قائم على مبدأ التعاون والأخوة القائمة بين أفراد المجتمع؛ قال رسول الله r: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” صحيح البخاري، الحديث: 6011.

إن القيام بشؤون المنكوب والمكروب والمصاب وإعانته لهي من أبرز دواعي تكافل المجتمع المسلم، فالذي أصيب بمصيبة أرهقته وضيقت عليه في رزقه ومعاشه هو أحوج إلى من يمد إليه يد العون ليشعر أن هناك من يهتم به؛ قال عطية الأبراشي: إن الإسلام نادى بالتعاون بين أفراد المجتمع وشجع على البر وفعل الخير والتكفل بإطعام الجائع وكسوة العاري وعلاج المريض وتعليم الأطفال وتربيتهم وضمان الحياة الكريمة للعاجزين عن الكسب من الشيوخ واللقطاء واليتامى…

قال الله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة) البقرة: 176.

إننا اليوم تحت وطأة هذه الجائحة أحوج ما نكون يدا واحدة، يكون هدفنا تحصين أفراد المجتمع من الحاجة والفاقة، ونحمي قيمنا وثقافتنا فنخفف عن الضعفاء الذين فقدوا شغلهم وتعطلت أعمالهم، والأرامل اللواتي لا معيل لهن، حتى نضمن مستوى معيشي يحفظ كرامتهم، ولقد تنبه المغرب لحال هؤلاء حتى قبل أن يشتد أمر الوباء، فأمر صاحب الجلالة حفظه الله بإحداث صندوق خاص بتدبير جائحة كرونا المستجد (الجريدة الرسمية عدد 6865، بتاريخ 17 مارس 2020) كآلية للتخفيف عن المياومين والمحتاجين والفقراء وكل من فقد عمله، وكذا للوقوف إلى جانب المقاولات التي توقفت عن ممارسة أنشطتها الإنتاجية والخدماتية، وذلك كله للحفاظ على القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني. هذا الصندوق الذي تجاوز ما حُدد له بأضعاف نتيجة الحس التكافلي والتعاوني للمغاربة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعامهم جعلوا ما بينهم في إناء واحد ثم اقتسموه بالسوية، فهم مني وأنا منهم” صحيح البخاري: 2486.

ولقد صرح السيد وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة أمام مجلس النواب بأن موارد الصندوق إلى حدود 24 أبريل 2020 وصلت 32 مليار درهم، وبلغت نفقاته 6,2 مليار درهم، خصصت منها 2 مليار درهم لوزارة الصحة من أجل اقتناء المعدات والمستلزمات الطبية لمواجهة هذه الجائحة، كما تم رصد مبالغ مهمة للأجراء والمستخدمين الذين توقفوا مؤقتا عن العمل (800 ألف أجير)، وكذا دعم الأسر المتوفرين على بطاقة نظام المساعدة الطبية – راميد- وقد بلغ عدد الأسر حوالي 2 مليون و300 ألف حسب تصريح السيد الوزير، إضافة للأسر التي تعمل في القطاع غير المهيكل ولا تستفيد من خدمة راميد، التي بلغ عددها 2 مليون.

إن هذا العمل الجبار الذي قامت به الدولة ولاقى استجابة منقطعة النظير من المغاربة، ليشكل أبهى صور التكافل والتضامن الاجتماعي.

الزكاة كأداة للتكافل الاجتماعي

تعتبر الزكاة من أهم موارد التكافل الاجتماعي في الاقتصاد الإسلامي، فهي من أفضل الأدوات المالية الرئيسية التي يستعملها الإسلام في تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية من خلال إعادة توزيع الدخل والثروة، إذ بها يتم تعبئة جزء من الدخل القومي السنوي من أجل إعادة توزيعه، كما تدفع النفوس للتحلي بالأخلاق الفاضلة ونبذ الشح والحقد والحسد.

فالزكاة كما ذكر أحمد محمد العسال في كتابه “النظام الاقتصادي في الإسلام”  تقوم بنقل وحدات أو أجزاء من دخول الأغنياء إلى الفقراء، فالأغنياء يزيد عندهم الميل الحدي للادخار، بعكس الفقراء الذين يزيد عندهم الميل الحدي للاستهلاك، وهذا يؤدي إلى الطلب على سلع الاستهلاك مما يؤدي إلى رواج السلع الاستهلاكية وزيادة الإنتاج، وأخيرا تزيد تبعا لذلك فرص عمل جديدة.

إن إخراج الزكاة في هذه الظروف العصيبة وإعطاؤها لمستحقيها ستنعش السوق الداخلي، فيزيد من الطلب على السلع الاستهلاكية، مما سيخلق رواجا سيخفف لا محالة من حدة هذا الركود السائد حاليا، ذلك أنه كلما زاد دخل الإنسان إلا وارتفع إنفاقه، فنكون بالتالي في حاجة إلى زيادة الإنتاج، فيرتفع الطلب على اليد العاملة فتقل نسب البطالة ويتولد الرزق لأكبر عدد من الأحياء فيؤدي ذلك كله إلى تحسين مستوى المعيشة للفقراء.

ونشير على أنه في الوقت الراهن وفي المستقبل أيضا يتعين توجيه الزكاة وأموال الأوقاف كذلك إلى البحث العلمي – خاصة المراكز والمختبرات البحثية بالجامعات والمعاهد العليا- الذي أظهرت هذه الجائحة الحاجة الملحة له، فهو الركيزة الأساسية لأي إقلاع اقتصادي حقيقي، ولن يتأتى هذا الأمر إلا بالإسراع إلى إخراج صندوق الزكاة لحيز الوجود.

ثانيا: ترشيد الاستهلاك والإنفاق

تشتد الحاجة اليوم إلى ترشيد الاستهلاك بجميع أنواعه، فالضرورة ملحة للاستعمال الأمثل للموارد وعدم تبذيرها، وتحقيق التوازن في الإنفاق؛ قال الله تعالى: (والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما). سورة الفرقان: 67.

إن مسألة الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي ليست كما هو عليه الحال في الاقتصاد الرأسمالي، حيث لا يحدها إلا الدخل المتاح أو الثمن الذي يفرضه قانون العرض والطلب، وإنما هي كما أشار إلى ذلك عمر بن فيحان المرزوقي:

– مسألة توسط واعتدال، إذ لا يبيح الإسلام إهدار المال وإضاعته في الانفاق غير الاقتصادي الرشيد، كالإنفاق في الاستهلاك المظهري.

– مسألة ضبط الحاجات الأساسية وظيفيا حسب الاعتبارات الشرعية.

– مسألة توجيه الإنفاق الاستهلاكي بما يتفق وسلم الأولويات والمصالح التي يطلق عليها البعض وحدة سلم الإشباع.

إن في احترام المستهلك لقيم الوسطية والاعتدال عند الانفاق، يجنبه البذخ والترف والإسراف والتبذير، وهذا يساعده على توجيه ما فاض عن حاجته من دخله إلى الادخار، ومن ثم إلى الاستثمار مما يعود عليه وعلى أمته بالنفع والفائدة، وبذلك يقدر على التصدق ومد يد العون للفقراء والمحتاجين خاصة أمام هذه الجائحة.

إن الاعتدال والترشيد في الاستهلاك مفهوم متوازن وهو: استخدام المقدار المناسب دون إسراف أو تقتير، حيث تتضمن فكرة الاعتدال عدم اعتبار الاستهلاك كغاية في حد ذاته، ولذلك فإنه يجب على الإنسان أن يستهلك بالقدر الذي يكون في حاجة إليه، ولقد بين الإمام الغزالي ذلك بقوله: والمقدار الذي يكسبه ينبغي ألا يستكثر منه ولا يستقل، بل القدر الواجب ومعياره الحاجة: والحاجة ملبس ومسكن ومطعم.

قال رسول الله r: “إن الله كره لكم ثلاثا قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال” صحيح البخاري: 1477.

ثالثا: الصكوك الإسلامية

الصكوك المالية الإسلامية هي وثائق متساوية القيمة تصدرها مؤسسات مالية باعتبارها مضاربا مقابل حصة شائعة في رأس مال مشروع معين أو مشروعات متعددة تتشارك في الأرباح المتوقعة أو الخسائر المحتملة، وتتميز بآجال متفاوتة وبقدرة مختلفة على التداول والاسترداد.

تعد الصكوك الإسلامية من أهم أدوات التمويل التي تسعى من خلالها الدول والحكومات لتطوير أدواتها المالية والمصرفية، فهي تسعى من ورائها الحصول على السيولة اللازمة لتوسيع قاعدة المشاريع وتطويرها، وتمكنها من المبالغ الكافية لاستمرارية بعض المشاريع التي يمكن أن تستغني عنها الدولة مؤقتا أو نهائيا في ظل الأزمات.

إن هذه الأزمة ستخلف مشكل حقيقي للسيولة عند الدول، مما يعني افتقارها للمبالغ الكافية للقيام بالمشاريع الاستثمارية التي برمجتها، وسيدفعها ذلك إلى التخلي عنها أو تأجيلها…غير أنه يمكن لهذه الدول إيجاد حلول لتفادي ذلك عن طريق إصدار صكوك إسلامية تتفق ونوع النشاط الاستثماري الذي تريده فتعرضها للاكتتاب، فتتولى الشركات والأفراد الراغبين في نوعية النشاط المطلوب بالاكتتاب فيها، سواء على سبيل المشاركات بالنسبة للمشاريع الكبرى كالمتعلقة بالبنى التحتية أو على سبيل المداينات كعمليات توريد السلع (صكوك المرابحة)، أو تمويل السلع كالمعدات الثقيلة و بناء وحدات سكنية من خلال (صكوك الإجارة).

والصكوك الإسلامية ذكر لها محمد تقي العثماني، مجموعة من المنافع سأذكر بعضها:

      – إنها من أفضل الصيغ لتمويل المشاريع الكبيرة التي لا تطيقها جهة واحدة.

  -إنها تقدم قناة جيدة للمستثمرين الذين يريدون استثمار فائض أموالهم، ويرغبون في الوقت نفسه أن يستردوا أموالهم بسهولة عندما يحتاجون إليها، لأن المفروض في هذه الصكوك أن تكون لها سوق ثانوية تباع فيها الصكوك وتُشترى.

  – إنها وسيلة للتوزيع العادل للثروة، فإنها تمكّن جميع المستثمرين من الانتفاع بالربح الحقيقي الناتج من المشروع بنسبة عادلة، وبهذا تنتشر الثروة على نطاق أوسع دون أن تكون دُولة بين الأغنياء المعدودين. وذلك من أعظم الأهداف التي يسعى إليه الاقتصاد الإسلامي .

إن الدول اليوم وفي هذه الظروف لا يمكنها أن تتحمل تمويل المشاريع الكبرى التي برمجتها لوحدها، وهي فرصة لإشراك أصحاب رؤوس الأموال في تمويلها عن طريق الصكوك الإسلامية، التي تشكل فرصة كبيرة للحفاض على التنمية الشاملة التي رسمتها هذه الدول.

playstore

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WeCreativez WhatsApp Support
فريق صفروبريس في الاستماع
مرحبا