تعتبر الحصانة البرلمانية من بين أهم الآليات التي اعتمد عليها بعض عشاق المناورة والتلاعب على القانون من النواب بغية خدمة مصالحهم الخاصة والإفلات من العقاب، حيث كان عدد من الساسة الفاسدين يستغلون هذه الآلية التي كانت تخول لهم حماية واسعة تبعا للفصل 39 من دستور 1996، والنظامين الداخليين سابقين للبرلمان بمجلسيه، الذي كان يفرض إجراءات شكلية لرفع الحصانة على البرلماني إذا ما تبث ارتكابه لفعل يجرمه القانون، ضاربة عرض الحائط جوهر الحصانة والأهداف التي من المفروض أن تحققها، والمتمثلة في توفير حماية لممثل الأمة حتى يمارس مهامه دون الخوف من ضغوطات أو تهديدات أو استفزازات يمكن أن يتعرض لها، حيث أن مجالها واسعا جدا، وكل عمل أو قول لا يندرج ضمنه يعرض العضو البرلماني للمتابع بعد اتباع مسطرة إجرائية لرفع الحصانة.
غير أن الحصانة البرلمانية في صيغتها الجديدة، عرفت تطورات هامة تجلت في موضوعتها، إذ أنها توفر للبرلماني حماية محدودة في نطاق ما يضمن له حرية التعبير وإبداء الرأي. وللمزيد من تسليط الضوء على هذا الموضوع، سنحاول التفصيل في مفهوم الحصانة الموضوعية والحدودة المفروضة عليها.
فمن أجل توفير الشروط المناسبة لممثلي الأمة لأداء مهامهم التي انتخبوا من أجلها والمتمثلة في التعبير عن رأييهم بحرية ومراقبة أعمال الحكومة وحماية الصالح العام، وجب بالضرورة توفير حماية خاصة لهم ضد أي تهديد أو إرهاب أو إنتقام، سواءا أكان صادرا عن الحكومة أو من طرف أغلبيتها أو من طرف فرد أو جماعة، لدوافع ذاتية أو سياسية، من شأنها التأتير على مهامهم أو ان تحول دون ادائها على أحسن وجه.
وبهدف ضمان حرية أعضاء البرلمان في المناقشة والتصويت وإبداء الرأي الصريح أثناء أدائهم لوظفتهم البرلمانية، نص الدستور الأخير في فصله 64 على عدم مؤاخدة العضو البرلماني عما يبديه من رأي أو قول في إطار ضوابط محددة تستهدف تحقيق الصالح العام والتصدي للفساد والاستبداد، وهو ما سمي بعدم المؤولية البرلمانية أو الحصانة الموضوعية أو الحصانة ضد المسؤولية الجنائية.
من المعروف أن الحصانة البرلمانية ظهرت لأول مرة في انجلترا من خلال وثيقة قانون الحقوق لسنة 1688 وبعد مضي حوالي قرن من الزمن أقرها دستور الولايات المتحدة الأمريكية لسنة 1787 ثم فرنسا عقب صدور قرار الجمهية الوطنية لسنة 1789 لتليها العديد من الدساتير التي أكدت عليها في مختلف البلدان (دستور مصر 1971، موريتانيا 1991، الجزائر 1996، إيطاليا 1947، ألمانيا 1949،…)
وفي هذا الصدد يندرج الفصل 64 من الدستور الجديد الذي عوض في هذه المسألة الفصل 39 من دستور 1996 جاعلا من الحصانة البرلمانية تقتصر على الحصانة الموضوعية عوض الحصانة الإجرائية، ويستنبط من هذا الفصل مجموعة من الأفكار، التي يستفاد منها تمتع أعضاء المجلسين بمجموعة من الإمتيازات دون سائر الأشخاص، سواء كانت لهم وظائف سامية في الدولة أم لا، حيث أنها تشمل الأقوال والأراء المعبر عنها أثناء مزاولة العضو البرلماني لمهمته، سواءا كان ذلك داخل المجلس الذي ينتمي إليه أو في إحدى اللجن التابعة له، أو حتى خارج المجلس بمناسبة قيامه بعمله، مثلا إذا كان ضمن لجنة مكلفة في إدارة أو مؤسسة أو في أي مكان داخل التراب الوطني، إذ لا يمكن مضاقته بسبب أقواله أو أرائه التي أبداها رغبة في تحقيق الصالح العام أو أداء ممثل الأمة لمهامه دون الخوف من الوقوع تحت طائلة المسؤولية الجنائية أو المدنية.
وتعتبر هذه الحصانة مطلقة من حيث الزمن حيث لا تحمي العضو البرلماني خلال مدة نيابته وفقط وإنما تحميه من الملاحقة حتى بعد انتهاء وانقضاء عضويته، وذلك لكل ما أبداه العضو خلال عمله البرلماني، وعدم مراعاتها من قبل المحكمة يؤدي إلى بطلان جميع الإجراءات المتخدة في حق العضو البرلماني، بل حتى وإن فقد العضو عضويته لسبب من الأسباب، فمن حقه التمسك بالحصانة التي كان يتمتع بها.
إلا أنه رغم المكانة الهامة التي تحتلها، تبقى الحصانة الموضوعية غير مطلقة، إذ لا يمكن أن تشمل العضو البرلماني خارج فترات تأديته لعمله، مما يجعله خاضع لكافة القواعد القانونية التي تسري على جميع أفراد المجتمع، كما أن الدستور في فصله 64 كان صريحا حينما إستثنى الأراء والأقوال التي تجادل في الدين الإسلامي أو النظام الملكي أو تتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك، حيث لا يجوز للعضو البرلماني التنكر للدين الإسلامي كديانة سماوية أو معارضة أحكامها القطعية، لكن من حقه النقاش في الأمورالإجتهادية كإبداء وجهة نظر مخالفة لما هو متعارف عليه في المذهب المالكي، أما فيما يخص النظام الملكي فهو لا يمكن أن يكون محل اعتراض أو مجدلة لأن وضعه في إطار المقتضيات الدستورية مماثل للدين الإسلامي إذ اعتبرهما الفصل 175 من الدستور غير قابلين للمراجعة، أما فيما يخص وجوب خلو الرأي المعبر عنه من كل ما من شأنه أن يخل بالاحترام الواجب للملك، فهو يتطابق مع مقتضيات الفصل 41 باعتبار الملك أميرا للمؤمنين وكذا الفصل 46 الذي اعتبر أن الملك لا تنتهك حرمته وله واجب الاحترام والتقدير، إضافة إلى أنه مطابق لما جرت عليه العادات المغربية من تقديم فروض الطاعة والولاء لمتولى سدة الإمام العظمى، إلا أن هذا لا منع من الكشف عن عيوب القوانين الصادر عن المجلس الوزاري بحجة رئاسته من طرف الملك، أو إبداء المعارضة عن تفعيل مقتضيات الفصل 74 و95 أو اتخاد مبادرة لمراجعة الدستور، غير أنه لا يجوز نقد التعينات المولوية لكبار الموظفين وكذا التي تتم في إطار المؤسسة الحكومية بواسطة ظهائر، حيث لا يحق للعضو البرلماني التعبير عن رفضه للتشكيل الحكومية إلا بالإمتناع عن التصويت لصالح برنامجها الحكومي، حسب ما نص عليه الفصل 88 من الدستور المتعلق بتنصيب الحكومة.
وتأسيسا على ما سبق، إذا وقع العضو البرلماني في إحدى الحالات الاستثنائية السابق ذكرها على سبيل الحصر يحرم من الاستفادة من الحصانة الموضوعية وتفتح ضده متابعة جنائية.
رغم ذلك لا يمكن إعتبار الحصانة البرلمانية الموضوعية مطلقة في مجالات تطبيقها، حيث لا يحق للعضو البرلماني وبدون وجه حق أن ينهال بالسب والقذف والإنتقاد اللاذع بغية تصفية الحسابات مع الذين يكن لهم العداء، وينتقد الحكومة والمؤسسات الإدارية من جراء عدم تلبيت مطالبه الخاصة، أو محاولة لاستمالة الرأي العام لكراهية الحكومة بهدف الظهور بمظهر المدافع عن المصلحة العامة. ومن أجل الحوول دون شطط البرلماني في استعمال الحصانة وجب على النظامان الداخليان للمجلس التدقيق في كيفية ممارسة العضو البرلماني لمهامه وكيفية تمتعه بالحصانة الموضوعية حسب ما ورد ضمن الفصل 64 من الدستور، لا الإجتهاد من أجل تمتيع العضو البرلماني بما لم يضمنه له الدستور لإتاحة الإمكانية من الجديد للتلاعب بهدف تجاوز القانون وتحقيق أغراض شخصية بطرق غير مشروعة.