بقلم: يوسف المسكين
من البديهي في الدراسات الثقافية أن الخطاب لا يُؤخذ بظاهره، فله أبعاد ظاهرية تُقدَّم للمتلقي، لكنها ليست جوهره الحقيقي، بل تُخفي خلفها أبعادًا باطنية تمثل جوهر الرسالة المراد إيصالها للقارئ أو المستمع.
إن الخطابات التي أصبحت طاغية اليوم، سواء في المشهد الإعلامي أو الثقافي أو السياسي، تحمل في أحشائها دلالات واضحة هدفها تقويض ومسخ الثقافة المغربية والهوية المغربية الإسلامية. فمهما كثرت التفسيرات والتأويلات وتعددت الاجتهادات، لن تستطيع تغيير حقيقة أن القاعدة المادية والأسس التي تؤطر الثقافة والهوية المغربية هي المرجعية الإسلامية.
فالخطابات التي تتغنى بالحداثة ما هي في جوهرها إلا امتدادٌ لمخططات قديمة، ليست وليدة اللحظة، بل تعود جذورها إلى دراسات المستشرقين قبل الاستعمار. مثلًا: وليم لين الذي كتب “المصريون المعاصرون” مصورًا المجتمع المصري في صورة تُعزز وتُبرر احتلاله واستعماره، والعنصري إرنست رينان الذي صرح بأن “العقلية العربية والمشرقية لا تصلح للعلم أو الفلسفة”، واعتبر الإسلام عقبة أمام التقدم، وهو ما لا يزال يؤثر في بعض العقليات الفاشية التي تدّعي أنها مغربية وتنتظر أي فرصة لمهاجمة الدين الإسلامي.
كذلك، غُسطاف لوبون، الذي كتب عن الحضارة الإسلامية، لكنه في طيات كلامه حمّل المسلمين مسؤولية ما اعتبره “تخلف العرب”، محاولًا إقناع الرأي الغربي بضرورة “تمدين” المستعمرات. وهناك أيضًا لويس ماسينيون، الكاثوليكي الفرنسي الذي نظّر لاختراق الهوية الإسلامية عبر التصوف، وجاك بيرك الذي دعا إلى “تحرير العقل العربي من الدين” من خلال نظرية الإدماج الثقافي.
أما برنارد لويس، فقد اعتبر أن الهوية الإسلامية تمثل عائقًا أمام الديمقراطية، وكان كتابه “أزمة الإسلام” أحد المراجع السياسية التي استُعملت لتبرير غزو العراق. وعلينا ألا ننسى دانييل بايبس الذي كرّس جهوده لتصوير الإسلام كمصدر تهديد عالمي دائم.
إن استحضار هذه الأسماء والدراسات الاستعمارية ليس من باب التأريخ فقط، بل لفهم طبيعة الخطاب الذي أصبح يهيمن اليوم على جزء من الفضاء العام داخل المجتمع المغربي، دون حسيب أو رقيب. هذه الخطابات، التي تتخفى وراء شعارات مثل “الديمقراطية”، و”حرية التعبير”، و”التعددية”، لا تهدف إلا إلى ضرب الهوية الثقافية للمغاربة، وتشويه الإسلام كمرجعية روحية ودستورية للدولة المغربية.
فلا يمر أسبوع دون خرجة إعلامية أو تدوينة أو نقاش موجه ضد الإسلام، وضرب في القرآن الكريم، أو استهزاء بالرموز الإسلامية، دون أي اعتبار للمقدسات الوطنية. والخطير في الأمر أن معظم من يقود هذه الحروب الثقافية لا يملكون فكرًا نقديًا جادًا، بل تحركهم أحقاد شخصية ضد الدين الإسلامي والعرب، وهناك من بينهم من تُحرّكه عقد مرضية حيوانية، لا تنسجم والأخلاق التي دعا إليها الدين الإسلامي لضبط المجتمع وتماسكه.
لقد خاض بعض هؤلاء في نقاشات حول القرآن دون أن يفقهوا سياقه أو مقصوده، وأليس هذا في حد ذاته إرهابًا ثقافيًا في حق أكثر من 95% من الشعب المغربي الذي يُعلن انتماءه للدين الإسلامي؟ فمن أنتم حتى تفرضوا رأيكم على شعب بأكمله، وتحددوا له بماذا يؤمن؟!
وفي كل مرة يخرج علينا أحدهم ليعلن أنه لم يعد مسلمًا، وكأن إسلامه أو كفره يعني شيئًا للمغاربة! ماذا سيقدّم للمجتمع؟ ماذا سيضيف للوطن؟! المغرب ليس بحاجة إلى “قصة شعر” و”نهدين بارزين” حتى نؤسس ما يُسمى بالديمقراطية الجديدة! تلك “الديمقراطية” التي ليست إلا تسليعًا وقحًا للمرأة المغربية، ومحاولة لجعلها سلعة بصرية، بدل أن تكون فاعلًا فكريًا وثقافيًا. المرأة المغربية ليست في حاجة إلى تغيير ديانتها، بل إلى تعليم يُقوّي فكرها، ويُخرج إمكاناتها. فقيمتها ليست في شدّ الصدر والمؤخرة، بل في شدّ الدماغ والفكر.
مركزة النقاش حول هذه التفاهات هدفه إلهاء المجتمع عن قضاياه الحقيقية. وأدوار هؤلاء “الكائنات الإعلامية” ليست وليدة اليوم، بل هي امتداد لبرنامج ثقافي بدأ قبل الاستعمار، وتمخضت عنه سلالة هجينة، غرضها الأساس تشويه الإسلام، وإقحامه في كل حدث أو سلوك خاطئ، وكأن من يدافع عن الدين الإسلامي يجب أن يكون ملاكًا لا يخطئ.
ولا نعدم كذلك وجود من يسمّي نفسه “تحرريًا” وهو يُمارس فاشية فكرية موجهة ضد القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي، رغم أنه لولا الإسلام ما كان ليقرأ أو يكتب حرفًا. هؤلاء يغذون النزعات العرقية داخل المجتمع المغربي، ويدعون إلى الفسخ والانحلال تحت يافطة التفتح والحرية. نعم، لك حرية ممارسة انحلالك كما تشاء، ولكن لماذا تريد جرّ القوانين والمؤسسات لفرضه على المغاربة؟ تريد أن تدعم المجرمين في قتل الشعوب؟ شأنك ذلك، لكن ما علاقة المغاربة بمسارك حتى تُفرضه عليهم قسرًا؟
هذه مجرد نماذج فقط، وهناك العشرات مثلهم، أصبحوا جنودًا في جبهة ضرب الهوية المغربية الإسلامية. ولهذا، لا يحق للمثقفين المغاربة أن يكتفوا بالصمت، بل عليهم أن ينهضوا بدورهم الكامل، وأن يكونوا سدًا منيعًا أمام حملات التشويه الممنهجة، وأن يدافعوا عن هوية المغاربة في وجه هذا الزحف الثقافي الخطير.