إن مجرد الإشارة إلى أن الأمة الجزائرية لم تكن موجودة عام 1830، عندما نزلت القوات الفرنسية في سيدي فرج، يكفي لأن يُتهم صاحبه بأنه “نوستالجي للجزائر الفرنسية” أو “من أنصار منظمة الجيش السري (OAS)”، وهو ما يؤدي إلى استبعاده وإسكاته في النقاشات الأكاديمية والإعلا
يجد النظام الجزائري دعمًا قويًا داخل أوساط اليسار الفرنسي، حيث تعمل بعض الأوساط السياسية والإعلامية على تكريس الرواية التاريخية الجزائرية الرسمية التي وُضعت بعد الاستقلال عام 1962. فالصحفيون المتواطئون أو غير المطلعين، إلى جانب الناشطين السياسيين الذين يرون في الجزائر امتدادًا لنضالهم الثوري ضد فرنسا، يروجون لهذه الرواية دون أي تمحيص علمي، مستندين إلى ما يُعرف بـ “مدرسة بنجامين ستورا”، التي توفر غطاءً أكاديميًا للمغالطات التاريخية.
تسيطر هذه الأوساط على الجامعات والإعلام في فرنسا، ما مكّنها من فرض قراءة تاريخية تُعزز “شرعية” النظام الجزائري، بحيث يُواجه أي تشكيك فيها بحملة تشويه واسعة. ومن أبرز المسائل التي تثير الجدل ما يتعلق بوجود دولة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي. فمجرد الإشارة إلى أن الجزائر لم تكن كيانًا موحدًا أو ذا سيادة قبل 1830، يستدعي هجومًا شرسًا ضد من يطرح هذا الرأي، رغم أنه كان موقف شخصيات بارزة، مثل فرحات عباس، الذي كتب عام 1936:
“لو كنت قد اكتشفت ’الأمة الجزائرية‘، لكنتُ وطنيًا، وما كنتُ لأخجل من ذلك. ولكنني لم أجدها. لقد استجوبت التاريخ، سألت الأموات والأحياء، زرت المقابر، ولم يذكرها لي أحد.”
حتى الجنرال ديغول أشار في مؤتمر صحفي عام 1959 إلى أن الجزائر، عبر العصور، لم تعرف كيانًا سياسيًا موحدًا، بل كانت مجرد أراضٍ خاضعة لحكم قوى مختلفة، من القرطاجيين، والرومان، والوندال، والبيزنطيين، والعرب، والعثمانيين، وصولًا إلى الفرنسيين.
العهد العثماني: بين التاريخ والخيال السياسي
يُروج الخطاب الرسمي الجزائري لفكرة أن الاحتلال العثماني كان مرحلة بناء للأمة الجزائرية، لكن الحقائق التاريخية تثبت العكس. فالجزائر تحت الحكم العثماني لم تكن سوى ولاية خاضعة للباب العالي، يحكمها دايات وبايات معينون من إسطنبول، على عكس تونس وليبيا، اللتين شهدتا تطورًا سياسيًا أدى إلى ظهور أنظمة محلية أكثر استقلالية، مثل حكم الحسينيين في تونس والكارامانليين في طرابلس.
الغرب الجزائري.. تاريخ مغربي مغيّب
كشف الكاتب بوعلام صنصال، المحظور حاليًا في الجزائر، أن الجزء الغربي من الجزائر كان جزءًا من المغرب قبل الاستعمار الفرنسي. هذه الحقيقة التاريخية كانت معروفة لدى المؤرخين لكنها كانت دائمًا ممنوعة من التداول العلني داخل الجزائر، لأنها تمس جوهر الأسطورة التي بُنيت عليها هوية الدولة الجزائرية الحديثة.
خلال حرب التحرير، قدم المغرب دعمًا دبلوماسيًا وعسكريًا وماليًا كبيرًا لقيادة الثورة الجزائرية، وتعهدت جبهة التحرير الوطني حينها بإعادة بعض المناطق التي كانت قد اقتُطعت من المغرب خلال المرحلة الاستعمارية. لكن، بعد الاستقلال عام 1962، نكث النظام الجزائري وعوده، بل خاض حرب الرمال ضد المغرب عام 1963، في خطوة اعتُبرت انقلابًا على الالتزامات التاريخية لثورة التحرير.
السردية الرسمية.. أزمة وجودية للنظام الجزائري
النظام الجزائري لا يمكنه التراجع عن الأسطورة التاريخية التي صاغها منذ 1962، لأنها أساس شرعيته السياسية. ومن هنا، فإن أي تشكيك في هذه الرواية يُعتبر تهديدًا وجوديًا له. الكاتب محمد حربي لخص هذه المعضلة بقوله:
“التاريخ هو الجحيم والجنة بالنسبة للجزائريين.”
الجحيم، لأن الحقيقة التاريخية تكشف أن الجزائر كدولة موحدة لم تكن موجودة قبل 1962، ما يُسبب عقدة وجودية للسلطة الحاكمة. والجنة، لأن النظام صنع أسطورة وطنية زائفة يُطالب الجميع بتصديقها، حتى لو كانت مجرد وهم.
في هذا السياق، يتجلى التناقض الكبير بين الواقع والتاريخ الرسمي، حيث يعيش النظام الجزائري في حالة إنكار دائم للحقيقة التاريخية، مدعومًا بأوساط سياسية وإعلامية في فرنسا، تُحاول إبقاء هذه الرواية حقيقة غير قابلة للنقاش.