Site icon جريدة صفرو بريس

الاجتهاد المنهجي بين الفقه والفكر

  لا يقتصر مجال الاجتهاد المرغوب فيه، لإحياء الروح الحضارية للأمة على الجانب الفقهي، وإنما ينبغي توسيع فضائه المعرفي، ليشمل مجالات حياتية أخرى فكرية ومنهجية. ولعل هذا ما حذا بالدكتور فريد الأنصاري إلى إطلاق عبارة الاجتهاد المنهجي وهو بصدد الحديث المفعم بحس إيماني غيور على الحضارة الإسلامية وعن المشكل الحضاري للمنهجية في إطار الدراسات الإسلامية.

فبعد ما أوضح ارتباط المناهج بنظرياتها وأن المنهج إنما هو وليد المذهب الذي أفرزه، ولما كانت المناهج في تأسيس الفكر المعاصر غربية، فإنه ولا شك تتميز بطابعها العلماني الذي لا يسمح بنقلها إلى المجال التداولي الإسلامي بسبب الفارق الكبير بين الحضارتين في صلة العلم بالدين.

وأمام هذا الوضع الملح لإنشاء منهجية مرتبطة بالخصوصية الشرعية فقد أطلق فريد الأنصاري النداء للباحثين كي “يفتحوا باب الاجتهاد المنهجي ويقتحموه على الآخرين قصد تأسيس ذات منهجية مستقلة خالية من العقد النفسية التي ما زالت تربك المنهجية الغربية بسبب الظروف التاريخية التي مردها العلم هناك”([1]).

ولعله يرغب في موقف علمي وازن قائم على منهجية مستقلة تعمل وفق مبدأين:

1-    مبدأ التحدي والاعتزاز بما لدينا من ثرات زاخر بأصول منهجية إسلامية بإمكانها أن تؤطر فكر المسلم المعاصر، في أبحاثه وعلومه لو عمل حقا على استخراجها وتركيبها وبذل الجهد في فهم الذات ودراستها.

2-    مبدأ الاستفادة من الغرب منهجيا عن طريق ما يسميه بالاستصلاح ويريد به (أسلمة) العلوم([2]).

وفي هذا المنحى ، انتقد الدكتور قطب مصطفى سانو من يرى الاجتهاد فرديا كان أو جماعيا شأنا فقهيا بحثا، بحيث يكون إما بذل الفقيه وسعه من أجل تحصيل ظن بحكم شرعي (الاجتهاد الفردي) او استفراغ أغلب الفقهاء وسعهم لتحصيل ظن بحكم شرعي (الاجتهاد الجماعي) وبعد نقده هذا، يقدم رؤية لما ينبغي أن يكون عليه شأن الاجتهاد في عالم اليوم، من سعة لقضايا الاجتماع البشري وقدرة على النظر في النوازل الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، في جمع تكاملي بين الوحي والواقع، وفي ذلك يقول: “والحال أن النظر الاجتهادي المنشود اليوم سواء كان فرديا او جماعيا ينبغي أن يتجاوز هذه الدوائر التقليدية المحدودة  دائرة الحل والتحريم – إلى دائرة أرحب وأشمل تتسع لحسن التخطيط والتوجيه لقضايا الاجتماع البشري والسياسية والاقتصاد والحضارة والقانون(…)بحيث يغدو الوحي قيما على واقع الحياة(…) أملا في تحقيق قيومية الدين على الواقع وتسديد الحياة في سائر جوانبها الدينية السامية“([3]).

 من أجل هذه الدعوة نفسها إلى توسيع مدلول الاجتهاد ومشمولاته، ليعالج القضايا الحقوقية الراهنة، فإن الدكتور نور الدين الخادمي كتب فصلا تحت عنوان “المجتهد المعاصر وحقوق الإنسان” دعا فيه إلى إشاعة الفقه الحقوقي الإسلامي والإنساني على أوسع نطاق مع بيان ضوابط ذلك ومستلزماته، وجعل من أهداف بحثه: ” تشجيع المجتهدين المعاصرين على اقتحام عقبة الاجتهاد الحقوقي بعلمية قوية وأخلاقية عالية ومنهجية أصيلة، ودفع ما ينعت به الاجتهاد وأهله في بعض الأحيان بالقصور والتخوف والغموض(…) وإبراز دور الاجتهاد الإسلامي في تقرير الحقوق الإنسانية الحقيقية والواقعية التي ترسخ إنسانية الإنسان وتعمق كرامته (…) وكذا الإسهام في الجهود المعاصرة عالميا ومحليا الساعية إلى إرساء منظومة الحقوق والقيم الإنسانية على أساس عادل([4]).

وهكذا يرتبط الفقه بالفكر في صوغ الإجابات الراهنة لقضايا العصر، حيث يستفرغ العلماء جهدهم الفقهي والفكري، للرد على التساؤلات ذات الصلة بعلاقة الاجتهاد بالشريعة من حيث تمثلها وطرائق الاستدلال على أحكامها. وفي هذا المعنى يرى إسماعيل الحسيني أن “الاجتهاد سؤال مفصلي، طرح على الفقهاء والمفكرين المغاربة، وهم يعيشون حوادث وأحداث تحدت مقاييس الفكر والتفقه السائدة في أوساطهم (..) صاغ هؤلاء الفقهاء والمفكرون المغاربة أجوبتهم وبنوا تفكيرهم في شريعة الإسلام، بهم فكري يستوجه ليس فحسب منطق الدين الإسلامي، بل يفرضه أيضا المستوى التاريخي الذي انتهى إليه الوجود المجتمعي لبلادهم. وقد تكوّن من ذلك فقه وفكر تنطوي كثير من عناصره على درجات كبيرة من الحياة في واقعنا المغربي الراهن([5]).

إن مهمة العلماء في التجديد الفقهي، والنظر الفكري ” لا يعني أن واجب الفقيه هو الملائمة بين حقائق الإسلام وحقائق الحياة المتغيرة (…)على نحو يجعله فقها تبريريا يسوغ الواقع الفاسد والعادات المستوردة“([6])

إن العقل المقاصدي الذي بناه القرآن والسنة، ينطلق من الوحي، ويرتكز على التفكير ويتوجه صوب الفطرة الإنسانية ويفيد من عبر التاريخ، لذلك كانت بداية الإصلاح تتأسس على ربط الفقه المقاصدي بمصالح الناس اعتمادا على البعدين الفقهي والفكري. لذلك يعتبر ” اقتصار الاجتهاد المقاصدي على المجال الفقهي التشريعي فقط، واحتجابه في هذه الزواية على أهميتها وامتدادها في عمق المجتمعات البشرية، يحمل الكثير من الخلل ويورث الكثير من التخلف والعجز في المجالات المتعددة وغياب ذهنية المراجعة والنقد والتقويم. صحيح قد يكون الاجتهاد المقاصدي في الفقه والتشريع هو الموقع الأهم والأخص. لكن قد تكون المشكلة المطروحة التي نعاني منها تكمن في غياب العقل المقاصدي والتفكير المقاصدي والسلوك المقاصدي الهادف، الذي ينعكس على الأنشطة والمسالك البشرية في جميع حقولها الفكرية والمعرفية والسلوكية([7]).

يتحصل مما تقدم، أن مدلول الاجتهاد متسع للمجالات كلها فقهية أو فكرية ولا شك أن إعمال المجتهد المعاصر لهذا المدلول المتسع يعد من أهم الإفادات العلمية والعملية في الإجابة على النوازل الفقهية والإبداع الفكري لتحصين الذات الحضارية للأمة وتوفير الإجابات المستقلة عن أسئلة الزمن المعاصر

الهوامش

 1– أبجديات البحث في العلوم الشرعية، فريد الأنصاري، ص 53 – 54، ط الثانية 1431- 2010، دار السلام ، القاهرة. [1]

2 – المرجع نفسه ، ص 55.

[1] 3 – أدوات النظر الاجتهادي المنشود في ضوء الواقع المعاصر، قطب مصطفى سانو، ص 150 الطبعة 1 عام 2000، دار الفكر، دمشق 

  4- الاجتهاد والمقاصد، نور الدين مختار الخادمي ، ص 40، طبعة 1 عام 2010، دار السلام القاهرة

  5- مقاصد الشريعة والاجتهاد في المغرب الحديث ، إسماعيل الحسيني،  ص 18-19، طبعة 1 عام 1431-2010، مركز الدراسات والأبحاث وإحياء الترات ، الرباط.

 6-  انظر الفقه الإسلامي في طريق التجديد، محمد سليم العوا ، ص 65، سلسلة شرفات العدد 22، منشورات الزمن 2008

[1]  7- الاجتهاد المقاصدي، حجيته  ضوابطه  مجالاته ، نور الدين مختار الخادمي،  1/18، كتاب الأمة، رقم65، طبعة أولى، عام 1419-1998 ، وزارة الاوقاف والشؤون الإسلامية


 

Exit mobile version